نبيل عبدالفتاح
«الأخلاق».. من أكثر المفردات والمعايير سيولة – واستخداماً وغموضاً – في تقييم السلوكيات الاجتماعية للآخرين، وذلك دونما ضبط وتحديد.. لماهية الأخلاق، والقيم المعيارية.. التي يُقاس بها ما إذا كان هذا السلوك أخلاقياً، أو مضاداً لها. وغالباً هذا المفهوم – الغائم في بعض المجتمعات – مرجعه خلط بعضهم بين الأخلاق في الدين ومعتقداته، ومذاهبه – أيّاً كان – وبين الأخلاق الموروثة داخل كل ثقافة من الثقافات – أيّاً كانت – وبين نسبية الأخلاق، وتطوراتها في واقع كل مجتمع وثقافته، وبين التصور المطلق للأخلاقيات.. المستمدة من النصوص الدينية المقدسة أو الوضعية، وتأويلاتها.
يذهب قاموس أكسفورد إلى أن الأخلاق هي «نظام قيم، أو قواعد معيارية، أو مبادئ تحكم بموجبها النوايا، أو السلوكيات.. على أنها جيدة أو سيئة أو خاطئة. قد ينشأ هذا الحكم من معتقدات ثقافية أو دينية أو فلسفية».
تدور الأنساق الأخلاقية النسبية المتغيرة.. حول قيم ومعايير الخير، والشر، والعدالة، والغش والخيانة والإخلاص، والصدق، والأذى، والمساواة والحرية، والقمع، والحب، والكره.. إلخ.
الأخلاق الإنسانية في الحياة المدنية نسبية، وليست مطلقة، وتؤثر في السلوك الفردي، والجماعي، وفي العلاقات الفردية، أو الجماعية، كما أنها تؤثر على قيم ومعايير العمل، والمسؤولية، والكفاءة، وأيضاً على مفاهيم الحرية والعبودية والخضوع والامتثال للسلطة، أياً كانت سياسية أو دينية، أو التحرر منها والخضوع للقانون أو انتهاكه أو الامتثال للفوضى أو بعضها… إلخ.
الأخلاق الإنسانية، متغيرة.. من مجتمع لآخر، ومستويات تقدمه أو تخلفه، وتعتمد على طبيعة السلطة القائمة داخله، ومدى خضوعها للقانون والقيم والقواعد السياسية الديمقراطية، أم يهيمن عليها الاستبداد والطغيان أو التسلطية السياسية. في ذات الوقت، تتأثر الأنساق الأخلاقية الإنسانية والمدنية، والدينية.. بالتغيرات التكنولوجية، والعلمية، والاقتصادية، وتطوُّر مستويات الوعي الفردي، والطبقي، والنظام الاجتماعي.. أياً كان. من ثم، نحن أمام طبيعة نسبية أخلاقية، ليست ثابتة، ولا تتطور عبر الزمن، أو التطورات الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية.
لا يمكن أيضاً الفصل بين طبيعة النظام الاقتصادي، وبين الأنساق الاقتصادية السائدة؛ لأن المعايير الأخلاقية تعكس أيضاً طبيعة المصالح الاقتصادية السائدة للطبقات الحاكمة.. وظهيرها الاجتماعي، وتتغير مع تركيبة السلطة الحاكمة ومصالحها، ومعاييرها الأخلاقية. ثمة بعض من التمايز أو التداخل بين القيم الأخلاقية.. المستمدة من المرجعيات الدينية والمذهبية – أياً كانت – وبين طبيعة النظام الاقتصادي والاجتماعي، ومن ثم السرديات التأويلية للقيم الأخلاقية.. التي تستند إلى الدين وموروثاته وتفسيراته.
القيم الدينية/المذهبية وتأويلاتها.. لا تعني أن القيم الدينية الأخلاقية تمثل عائقاً ضد التقدم الاقتصادي والاجتماعي، على نحو ما قد يشيع بعضهم؛ لأن تطور الرأسمالية تاريخياً.. اعتمد على الثورة التأويلية البروتستانتية لمارتن لوثر، وكالفن. وذهب ماكس فيبر إلى أن لوثر ركز على مفهوم الأعمال الدنيوية، وأن العمل واجب وكذلك الادخار، ومن ثم أدى ذلك إلى تراكم الثروات الفردية، وتوظيفها، واعتبرها بمثابة نعمة من الله متأثراً في ذلك بالعهد القديم.
ربط ماكس فيبر بين أخلاق العمل وبين الرأسمالية، وبين الكالفينية، وبين العمل كدالة على الخلاص الشخصي، والإنتاج وليس الاستهلاك، ومن ثم الانضباط في الاستهلاك، يؤدي إلى الادخار والاستثمار، وهو ما أسهم في إتاحة فرص العمل، والمساعدة على بناء مجتمع منتج وفاعل، ودينامي، وذلك في ظل قيم الثقة والادخار والتواضع والصدق، والتسامح، والمثابرة.. التي ساهمت في ميلاد الثورة الصناعية. نظرية ماكس فيبر ذائعة الصيت في علم الاجتماع، ونظرياته، وتطوره، كشفت عن أن الثورة التأويلية اللوثرية والكالفينية ساهمت في تطور الرأسمالية الأوروبية، وأيضاً في الثورة الصناعية.
النسبية الأخلاقية، والأنساق الأخلاقية المتغيرة في المجتمعات الأوروبية والغربية، تأثرت بتطور التكنولوجيا، والثورات الصناعية، وبالفردانية، والفرد كفاعل اجتماعي، ثم التمايز بين الوضعي وما وراء الوضعي.. خاصة الأديان، ومن ثم باتت الليبرالية والرأسمالية، هي ديانة الغرب الوضعية، لكنها ديانة تحت سيطرة الطبقات الحاكمة في النظم الليبرالية الرأسمالية، وتطوراتها النسبية من مرحلة لأخرى، والأهم داخل تركيبة وهياكل ونظم وشروط الإنتاج الرأسمالية وتغيراتها.
أدت الثورة الصناعية الثانية والثالثة إلى تسييد ثورة الاستهلاك المفرط للسلع والخدمات العامة، وتسليع الرغبات والدوافع الفردية والجماعية. من ثم باتت حرية الاستهلاك المفرط، وتوسُّعها، وتغوُّلها على الحريات العامة والفردية، رهينة الشركات الرأسمالية العملاقة والضخمة كونياً، ومن ثم قدرتها على توليد متجدد للرغبات والدوافع الاستهلاكية والخدمية، ومعها تمويل المصارف للأفراد بالقروض للأفراد لإشباع بعض رغباتهم المتجددة في الاستهلاك والخدمات.
تزايدت النزعات الاستهلاكية المفرطة والكثيفة.. على نحو أدى إلى أنماط من تسليع السلوك الفردي، وتحوُّله إلى استعراضات وتمثيل، على نحو ما أشار إلى ذلك جي ديبور في مؤلفه «مجتمع الاستعراض»، وفي كتابه في الرد على منتقديه والتعليقات عليه.
بدأت هذه الثورة الاستهلاكية المفرطة – بعد ثورة الطلاب في جامعة كاليفورنيا بيركلي وامتدت إلى جامعة السوربون 1968 – واتسع نطاقها في ظل الثورة الصناعية الثالثة، في أوروبا وأمريكا، وتمددت عالمياً، ويمكن اعتبارها واحداً من أسباب انهيار الإمبراطورية الماركسية، اللينينية/الستالينية السوفيتية، وذلك لإنتاجها دوافع سوسيو – نفسية متخيلة لدى الأفراد، وبعض المجتمعات الاشتراكية.
أدت الثورة الصناعية الرابعة، وداخلها الثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعي التوليدي.. إلى انفجار الرغبات الاستهلاكية الجامحة، من الواقع الرقمي إلى الواقع الفعلي، وتمكنت الشركات الرقمية العملاقة من أن توظف البيانات الضخمة Big Data، وتحليلها، وبيعها للشركات الرأسمالية النيوليبرالية الكبرى في العالم، ومن ثم إلى تحويل الإنسان/الفرد إلى مادة يُعاد تشكيلها، من خلال توليد الدوافع والرغبات سوسيو النفسية والاستهلاكية.. عبر البيانات الضخمة، وسياسات الترويج للسلع والخدمات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتوظيف سلطة الصورة الرقمية، والفيديوهات الوجيزة جداً، وسياسة الإغواء، وتنشيط ما يمكن أن نطلق عليه ديانة السوق، وديانة الاستهلاك النشيط والمفرط والمتغير والمتحكم فيه.
في ظل نيوليبرالية متوحشة، تفرض النيوليبرالية أخلاقيات الاستهلاك والتسليع للإنسان، وللقيم الأخلاقية، بل تحولت الفردية المتسلعة.. إلى معتقل فعلي للحرية في السياجات الاستهلاكية المتغيرة، والمتجددة. بات الفرد محاصراً بين السلع والخدمات، ومن ثم تتآكل نسبياً بعض القيم الليبرالية السياسية والأخلاقية.. مع هذه السياسات الاستهلاكية المفرطة، وإعادة تشكيل الدوافع والرغبات الإنسانية. لا يزال هناك بعض من القيم الأخلاقية الليبرالية والبروتستانتية والكاثوليكية – ما بعد المجتمع الفاتيكان الثاني – في السلوك الفردي والاجتماعي الأوروبي والغربي، إلا أن بعض هذه الأخلاقيات البروتستانتية، اللوثرية والكالفينية، يتآكل ويُضعف بعضها، مع استمرارية البعض الآخر.
لا شك في أن أخلاقيات الديانة الوضعية النيوليبرالية الوحشية، ومعاييرها.. تتمركز حول تعظيم الاستهلاك المفرط، وتسليع السلوك وتشَيُّؤ الإنساني، على نحو يفاقم من مشكلة المعنى في الوجود الإنساني، وسوف تزيد هذه المشكلة الوجودية مع ثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي، ومرحلة الإناسة الروبوتية، وستؤثر على قيم الإبداع، والعمل والمسؤولية، والكفاءة، وعلى العقل الرقمي، وستؤدي إلى مشكلة لمن سيخرجون إلى البطالة من سوق العمل، ومنه إلى المزيد من الاغتراب الإنساني، وحالة اللا معنى في الحياة، خاصة في المجتمعات الأكثر تطوراً في عالمنا خلال السنوات والعقود المقبلة.
نقلاً عن «الأهرام»