Times of Egypt

أسئلة يُحرِّمون طرحها

M.Adam
جميل مطر 

جميل مطر

لعبنا – ونحن أطفال – لعبة السؤال والجواب. يسألون السؤال، فنفشل في الإجابة أو نتردد. فيعاودون السؤال بصيغة ثانية.. أقل تعقيداً، فنفشل أو نتردد. فيطرحونه مرة أخرى.. بصيغة مخففة، فنفشل في الإجابة أو نتردد.

فيجربون مرة أخيرة، فنفشل أو نتردد.. فيعلنون الفوز – متضمناً في استفسار بلهجة ساخرة – «غُلب حمارك وإلا لسه؟».

***

عشت سنوات أحاول فهم الصلة – في هذه اللعبة البريئة في مظهرها.. العميقة في مدلولها – بين الطرف المُلح دائماً في السؤال، وبين الطرف الذي يعجز «حماره».. كل مرة، عن تقديم الإجابة الصحيحة في الوقت المناسب. كنت وأنا صحفي – تحت التدريب الذاتي – كلما ضاقت بي سبل الحصول على إجابات صحيحة أو مقنعة – أو على الأقل تُشبع فضولي – في قضية بعينها، أتذكر مبتسماً.. لعبتنا البريئة، في زمن طفولتنا المتعطشة طول الوقت لإجابات صحيحة.. على أسئلة لا تنتهي.

***

علموني وقتها – أقصد وقت التدريب الذاتي – علموني أن «السؤال» يبقى مدى الحياة، وفي كل الثقافات.. جوهر مهنة الصحفي. لكن ليس كل سؤال. سؤال الصحفي كسؤال الطبيب لمريضه، إن لم يحسن الطبيب صياغة سؤاله، واختيار الوقت المناسب لتوجيهه، فإنه لن يحصل على إجابة صحيحة، وبالتالي لن يُشفى المريض. سمعت من أطباء – ومنهم ابني – أن بعض المرضى يراوغون.. كما يراوغ بعض العاملين بالسياسة – ومنهم بعض قادتها – في تقديم الإجابة الصحيحة. وفي الحالتين تتعقد مهمة الصحفي، وتتعطل رسالته. وتتعقد مهمة الطبيب، وتفشل مهمته.

***

مقدمة طالت مني.. بالغصب عني، ولكني أفرغت فيها.. ما في صدور بعض الصحفيين من ضيق وخيبات أمل، بسبب عجزهم عن الحصول على إجابات صادقة أو صحيحة.. لأسئلة «عششت طويلاً» في رؤوسهم، أو لعل الضيق وخيبات الأمل.. سببها عجز الطرف الآخر – هو نفسه – عن تقديم هذه الإجابات.

***

اخترت ليقود قائمة الأسئلة الحائرة – بحثاً عن مجيب – سؤالاً – أو حزمة من أسئلة – تحاول استشراف معالم مستقبل قريب أو بعيد، ليس فقط لإقليم درجنا على اعتباره.. عربي اللغة والقوم والموقع والتاريخ، ولكن أيضاً لعالم صارت تتحكم فيه أسباب فوضى خبيثة، تهددنا جميعاً بخطر انتشارها.. في كل خلايا البدن الدولي.

يتحدثون عن غرائب. أتصور أنه يوجد في عالمنا المعاصر غرائب.. أشد غرابة، وفروقات.. أشد اتساعاً من أي غرائب وفروقات في مرحلة سابقة في التاريخ السياسي، لكنها لا تبرر أن يعترف مسؤول سياسي أنه غير واثق من المستقبل.

***

دائماً وأبدا،ً هذا المسؤول متيقن تماماً من هيمنة حالة عدم اليقين.. على التفكير في المستقبل. لم يتوقف الصحافيون – في كل أرجاء العالم – عن توجيه هذا السؤال لكل مسؤول.. يرضى لنفسه أن يقف أمام صحفيين مجتهدين، ولكن قلقين. أخشى أن أنطق بلسان غالبية السائلين، فأقول إن «عدم اليقين، صار اليقين الوحيد في الحال الراهنة». ولا أحد في قطاعات السلطة.. مستعد للنطق – علانية – بهذه الإجابة، لما ترتبه من تحديات وقضايا.

***

السؤال التالي مرتبط بالسؤال الأول. يسألون ولا يتلقون إجابة واحدة شافية. يعيش عالمنا حالة فوضى.. علاماتها واضحة لا تخطئها عين صحافي مجتهد. غزة – على صغرها وضعفها، ولكن برمتها إقليمياً ودولياً وإنسانياً وإعلامياً – علامة بارزة على هذه الحالة من الفوضى. حالة لا تنظمها قواعد ولا قانون ولا أعراف ولا عقل متحضر، حالة أقرب ما تكون إلى حالة البداية، عندما كانت الغابة بدون شريعة.

***

يسألون عن أسباب هذه الفوضى. أتفهَّم الحرج المصاحب للإجابة عن أسباب الفوضى الدولية؛ وبخاصة ما تعلق منها بالظاهرة الترامبية في السياسة الدولية. ولكن يصعب – على نهج تفكيري – تفهُّم عدم الإجابة عن سؤال يبحث في أسباب الفوضى الإقليمية، أو تفهم إجابة ملتوية – أو غير صحيحة – أو إجابة تعبت، وأتعبتنا – بطول الكذب، الأبيض منه والشرير – أو إجابة تغوص في التاريخ.. قديمه وقريبه. وكلاهما تعرض لحملات.. أفقدته سمعة الاستقرار. يسألون عن المرشح لمنصب الأمين العام لجامعة العرب، ويستعدون لسؤاله.. عن خبرته وتجاربه في شؤون العرب، وموقفه الشخصي من محاولات تمييع قضية الاعتراف بدولة فلسطينية، ومنها الإعلان عن قائمة بإجراءات.. تحل محل إعلان عن دولة مستقلة لفلسطين.

هنا يستحق السؤال: من يستهين بذكاء وحرمات.. من وافق على الانسياق وراءها؟ هل يجيبنا الرئيس ماكرون بشفافية وصدق؟ أم نسأل رأس الغرب – وهو الطرف الأعظم في أي خطة تدبر الآن للشرق الأوسط.. على اتساعه وتنوعه – أو خطة دبرت بالفعل لنا، وجار تنفيذها.. لتصفية أوضاع الإقليم العربي؟

***

قضيتان تداخلتا في الآونة الأخيرة وتحولتا إلى سؤال كبير.. يبحث عن إجابة تبدو بعيدة وصعبة. نتساءل – مع جماهير الصحفيين العرب – إن كانت الدول العربية – منفردةً أو مجتمعةً – أعدت إجابة عن سؤال.. يتعلق بمجمل الخطط التي تنفذ – أو تُعد حالياً في دول الغرب – لطرد المهاجرين العرب إلى بلادهم – التي هجروها، أو هاجروا منها إلى الغرب – «علماً بأن دولاً غربيةً معينةً، أدمجت في هذه الخطط أهدافاً شريرةً، تضع كل الطلبة والأساتذة الفلسطينيين والعرب، واللاتينيين والمتعاطفين مع أهل فلسطين»، كلهم ضمن قائمة سوداء.. تمهد لطردهم؛ بإيحاء – أو توجيهات – من الرأس الخفية للحركة الصهيونية العالمية، التي تحرك – عن بُعد، وأحياناً عن قُرب – بعض دمى السلطة في الغرب وخارج الغرب.

إنها الحرب الانتقامية الوحشية، التي تشنها الصهيونية العالمية.. لوقف التعاطف المتزايد مع المقاومة الفلسطينية.

الهدف في النهاية.. غرب بدون هنود حمر، ولاتينيين، وملونين، وبدون مسلمين وعرب.

***

أسأل مع السائلين.. كانت الجامعة العربية – على عجزها – موضع اتهام من إسرائيل بالعداء للسامية.. منذ أنشئت قبل سبعين عاماً. أسأل: هل يشعر المسؤولون العرب، بأن خطة تصفية الجامعة – كمؤسسة إقليمية شبه قومية – قد اتخذت فعلاً، وجار تنفيذها.. بشكل أو آخر، أو نسأل إن كان المسؤولون العرب.. قد انتبهوا أخيراً إلى خطورة الحال، التي تردت إليها الجامعة العربية، وانعكاس هذه الحال على النظام الإقليمي العربي، وانتبهوا إلى ضرورة الإسراع فوراً لإنعاشهما، وتهيئتهما لسنوات صعبة ومختلفة.

هل من إجابة – أو إجابات – عاجلة، فالأجواء الصحافية العربية ملتهبة بالتوقعات والآمال.

***

أسأل مع السائلين.. وهم كثر، أسأل عن الدول العربية الهشة، والدول المنفرطة.. على نفسها، والدول التي خرجت من دور في صنع الإقليم، ودخلت دور الدول الهدامة، والدول التي خرجت من دائرة الاهتمام والتحليل.. إلى دوائر النسيان، والدول التي انقسمت بين جيشين، والدول النموذج للتنوع.. إلى دول النموذج للفتن والتعصب والاقتتال.

أسأل المسؤولين العرب.. عمن فعل بها ما فعل؟ وكيف فعل. ولماذا فعل. أسألهم أيضاً: عن قادم الأفعال، وفيهم من يعلم.

***

أسأل مع السائلين.. عن مصير نظام دولي، تسدد فيه القنابل الحارقة ضد مختلف مؤسساته الواحدة بعد الأخرى. لا أمل بعد اليوم في مؤسسة.. كانت تقدس حرية التجارة العالمية. أو في أخرى.. ركزت على صحة شعوب العالم، أو ثالثة.. تهتم بإنقاذ الفلسطينيين.. من جوع مدروس ومَحْق، ومن أمية بشعة. أو رابعة.. تخصصت في استبعاد الحروب والطغيان، وحماية الشعوب الضعيفة. أو خامسة.. مكلفة بإدانة ومحاكمة مجرمي الحرب.

أضف إلى كل ما سبق، دولةً أعظم.. انحدرت مكانتها وهيبتها، إلى حال راهنة.. داعية للحسرة والأسى.

***

كثيرة هي الأسئلة المقموعة – أو الغائبة عن حلبات النقاش – أختار منها العناوين التالية.

أولها: السؤال – المتكرر قمعه، والتعتيم عليه – عن ظروف وملابسات وخطط صنع الإرهاب في الشرق الأوسط، الصحافيون يريدون القصة الحقيقية.. في طبعتها النهائية. وهي في الغالب مشوقة ومذهلة.

ثانيها: السؤال المدفون في ملفات أمنية مهمة – ولكن المطل منها علينا بين الحين والآخر – وأقصد عملية اغتيال جون كينيدي.

ثالثها: السؤال المتردد بكثرة بين الصحفيين المهتمين بحال الإقليم.. عن بقية الخرائط – المعدة في دول كبيرة وغير كبيرة – للشرق الأوسط؛ كما «يبغاه» بعض العرب، أو كما يبتغيه غير العرب. رأينا خريطةً – أو خريطتين – أطلعنا عليها نتنياهو، وفضولنا للاطلاع على الخرائط الباقية.. يتحول تدريجياً لرغبة عارمة.

رابعها: أسأل – مع عشرات أو مئات الصحفيين – عن لغز تحريم توجيه سؤالين.. إلى قادة الدول الغربية؛ سؤال منهما.. عن السبب وراء شن المقاومة الفلسطينية حملةً عسكريةً ضد إسرائيل، يوم السابع من أكتوبر من عام 2023؟ والسؤال الثاني.. عن السبب الحقيقي وراء قرار الرئيس الروسي، شن عملية عسكرية ضد أوكرانيا.. قبل ثلاثة أعوام؟

أعلم عن حدس – قلما أخطأ – أنه لو سمحت قوى القرار في الغرب – كما في العالم العربي – بتوجيه السؤالين، والإجابة الصادقة عليهما.. لذاعت حقيقة السبب في الحالتين، ووفرنا على العالم عشرات الألوف من الضحايا والمصابين، وتريليونات الدولارات.

***

وأسئلة أخرى – ضمن أكوام – تراكمت على امتداد السنين والممارسة، تنافس أكياس الحلوى المصطفة على رفوف مكتبتي، أو تختلط – عشوائياً – مع مستندات وشهادات.. محشوة بها أدراج مكتبي.

نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة