Times of Egypt

«الأفيون» و«فريد شوقي» و«فاتن حمامة»

M.Adam
وجيه وهبة 

وجيه وهبة


فى مطلع شبابه، كتب «كارل ماركس» مقالاً تمهيدياً.. لدراسة نقدية عن «فلسفة القانون» عند
الفيلسوف «هيجل»، وردت فيه فقرة عن الدين، اختتمها بقوله: «… الدين هو تنهيدة الإنسان
المُضطهَد، هو القلب فى عالم بلا قلب، والروح في أحوال تخلو من الروح. إنه أفيون الشعب».
اختزلت الثقافة الشائعة الفقرة كلها.. في عبارة: «الدين أفيون الشعوب»، وأصبحت تلك العبارة
من أشهر المقولات «الماركسية»، وأكثرها استخداماً.. سواء من الماركسيين أو من أعدائهم؛ كل
يوظفها ويؤولها وفقاً لأهدافه. ولعل تلك العبارة هي أصلد ما تبقى صامداً فاعلاً.. من مقولات هذا
الفيلسوف الفذ – أمام تقلبات الزمن – على الرغم من غزارة وعمق إسهاماته الفكرية في تشكيل
عالمنا منذ مطلع القرن العشرين.
في سبعينيات القرن الماضي، نشر أستاذ الفلسفة.. المفكر «فؤاد زكريا» مقالاً مطولاً – في مجلة
«روزاليوسف» – تحت عنوان «ماركس وأفيون الشعوب». وأعاد نشره بعد عشرة أعوام ضمن
كتاب له صدر بعنوان: «الصحوة الإسلامية في ميزان العقل» (1987). وفي هذا المقال، يتناول
«فؤاد زكريا» تحليل وتأويل لعبارة: «الدين أفيون الشعب».. وفقاً لسياق النص الذي وردت فيه.
ومن هذا التأويل نختار شذرات دالة، يقول فيها: «… إنَّ الدين في هذا النص.. عزاء لإنسان
مطحون، وهو يظلُّ ضرورياً ما دامت الأوضاع التعسة التي يحياها الإنسان قائمة؛ إذ إنَّ من
القسوة المُفرِطة أن تحرم المظلوم المُضطهد.. حتى من الأمل في حياة أخرى، أفضل من حياته
التعسة، أو أن تسلبه الإيمان الراسخ.. بأنَّ في الكون نظاماً عادلاً، وبأنَّ هذه العدالة – إذا تمهَّلت
أو تأخَّرت قليلاً، – فإنَّها لا تُهمل».
ثم يواصل أستاذ الفلسفة.. ليشرح بصورة طريفة مبسطة: «ولكي نزيد ما يعنيه ماركس إيضاحاً،
نضرب له مثلاً من المشاهد المألوفة في الأفلام المصرية؛ ففي هذه الأفلام تجد الشرير (وليكُن
فريد شوقي)، يحتسي الخمر قبل أن يشرع في ارتكاب جريمته، لكي تعطيه الخمر مزيداً من
التشجيع والقوة الدافعة إلى ارتكاب الجريمة، كما تجد البنت الطيبة المظلومة (ولتكُن فاتن حمامة)
تلجأ إلى الخمر.. لتنسى همومها، وتخفف من وقع الكوارث التي تراكمت عليها. هنا يصبح للفعل
الواحد – وهو شرب الخمر – معنيان مختلفان، ويتضح لنا أن التخدير الذي تُحدثه الخمر على

نوعين، بينهما فرق واضح؛ فهناك تخدير يدفع المرء إلى ارتكاب الشر، وتخدير يخفف عن
المرء وقع الشر. النوع الأول نذمه ونكرهه، أما الثاني فنشعر إزاءه بالعطف، رغم علمنا بأن
تناول المُخدِّر أو المُسكِر – بكل أنواعه – عملٌ غير أخلاقي. والآن، فبأي معنى استخدم ماركس
تعبير «أفيون الشعب» في عبارته المشهورة؟».
ويواصل «فؤاد زكريا»: «من الواضح أن كل من يقتطع هذا التعبير من سياقه – لكي يهاجم به
ماركس – يستخدمه بالمعنى الأول، ولنُسمِّه رمزياً.. معنى «فريد شوقي»، مستغلاً الوقع السيئ
للفظ «الأفيون» على الآذان، فينسب إلى ماركس.. أنه جعل من الدين أداةً لخداع البشر، وإيقاعهم
في حبائل الشر. ولكن الواقع، أن ماركس استخدم المعنى الثاني (معنى فاتن حمامة)؛ لأن السياق
بأكمله.. يتحدث عن الاضطهاد والظلم الذي يقع على الناس، ويجعل الدين عزاءً ضرورياً لهم..
في عالم لا يرحم».
ويستطرد «فؤاد زكريا».. محذراً من الترويج بأن «ماركس» قد قصد بهذه العبارة: «إبعاد الناس
عن الدين، مثلما يبتعدون عن مُخدِّر ضار كالأفيون». لأن المعنى الحقيقي الذي كان يقصده، هو
أن الناس تلجأ للدين للاحتماء به.. إزاء عجزهم أمام الظلم الاجتماعي. و«أن الدين عزاء لا بدَّ
منه.. ولما كان التنظيم الاجتماعي العادل ما زال بعيداً عن التحقُّق في مجتمعات كثيرة، فإن
ماركس لا يستطيع أن يدعو شعوب هذه المجتمعات.. إلى التخلِّي عن أديانها».
ولأن عبارة «الدين أفيون الشعب» تبدو مراوغة – وفقاً للمستهدف من سياق اللجوء إلى ذكرها –
نجد أن «فؤاد زكريا» يعود ويؤكد: «الدين في نظر ماركس أفيون، ينقل البشر من عالم الواقع
إلى عالم وهمي، يتخيلون فيه أن مشاكلهم قد وجدت حلاً أبدياً لها… وحتى مع الاعتراف بأن
ماركس يرى الدين ضرورياً، لأولئك الذين تطحنهم قسوة النظم الاجتماعية، فإن هذا لا يمكن أن
يكون رأياً يرضى عنه رجل الدين؛ إذ إن الدين – حسب رأى ماركس – لن يعود ضرورياً بمجرد
أن يُحقِّق الإنسان لنفسه.. نظاماً يختفي فيه الظلم والاستغلال».
يوضح «فؤاد زكريا» أن عداء «ماركس» للدين كان أساسياً، فقد كان دائماً أداة من أدوات
الاستعمار والاستعباد وتسلط الأنظمة. لكن ذلك كان في سياقات زمانية ومكانية محددة، وسياق
بيئته اليهودية/المسيحية. ومن رأيه (فؤاد زكريا) أن من الممكن أن يُوظف الدين أيضاً كأداة
تحرر، كما كان الأمر في تحرر بعض الدول الإسلامية.

كتب «فؤاد زكريا» مقاله هذا.. في بواكير ما سُمّي فيما بعد «الصحوة الإسلامية»، وقبل سنوات
من وضوح هيمنة «الديانة المنظمة» على المشهد، بتجليها المتصاعد.. في صورة «الخميني»
والملالي في «إيران»، و«طالبان» في بلاد الأفغان، و«الإخوان» في كل مكان، وغيرهم من
تيارات الإسلام السياسي السلفي السلطوي المتسلط. وأتصور أنه لو كان هذا المفكر الكبير «فؤاد
زكريا» ما زال بيننا اليوم، لأعاد النظر في مسألة «الدين» كوسيلة تحرر، وليشهد كيف أن الدين
الذي يُستخدم كأداة للتحرر من المحتل الأجنبي، هو ذاته الذي يسهل توظيفه.. كأداة للتسلط
واستعباد أبناء الوطن… «المحرر»!
نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة