أحمد الجمال
بينما كنت أطالع تقارير سياسية عن التوتر بين الهند وباكستان، تذكرت زيارة قمت بها إلى
يوجوسلافيا سنة 1982، عندما كانت دولة موحدة ذات توجه اشتراكي خاص بها أبدعه
الماريشال جوزيف بروز تيتو.
وتوجهت بالقطار من ثِسالونيكي شمال اليونان إلى سكوبيا في يوجوسلافيا، وكانت الجولة طويلة
المدى.. بصحبة صديقي الدكتور على فتال – القيادي آنذاك في تنظيم الطليعة العربية – وكنا
بصدد عقد لقاءات وإلقاء محاضرات.. في فروع رابطة الطلبة الوحدويين الناصريين، وتضم
طلاباً من مختلف الدول العربية يدرسون في جامعات يوجوسلافيا وأوروبا الشرقية آنذاك.
وفي البوسنة، تجولت في مناطق قريبة الشبه بمناطقنا الريفية الشعبية، ولفت نظري وجود قلاع..
كان العديد من مداميك جدرانها مبنية من جماجم بشرية، عرفت أنها تعود للصرب الذين قُتلوا في
البلقان.
وكان الغزو من الضراوة والعنف.. لدرجة أن روائياً يوجوسلافياً هو «آيفوأندريتش»، كتب
رواية شديدة التأثير عن فظائع ذلك الغزو، وعنوانها «جسر على نهر درينا»، وزاد من روعتها
لقارئ العربية.. أن من ترجمها هو القدير الدكتور سامي الدروبي.
ومضت السنون، ولم تعد رابطة الطلبة ولا الطليعة العربية موجودتين، وجاءت الحرب بين
الصرب والبوسنة.. لأفهم أصل العنف المتمكن المتجذر – بشكل رهيب – عند الصرب ضد
البوسنيين المسلمين، وأجد أن أحد أسبابه – أو ربما سببه الرئيسي – هو ما فعله الجيش العثماني
ضد المقاومة الوطنية الصربية؛ لدرجة جعلت صخور الجسر القائم على النهر تبكي.. في المشهد
الذي صوَّره الروائي، للساعات التي تمت فيها خوزقة زعيم المقاومة الصربية، لأن الخازوق
كان أداة الإعدام العثمانية!
تذكَّرت ذلك، فيما أقرأ جذور العداء القومي الهندوسي للمسلمين، وكيف أن عقيدة «هيندوتفا»،
أي القومية الهندوسية، تجعل المسلمين عند معتقديها – وهم الغالبية – العدو الرئيس.
وفي تقرير منشور منسوب للإذاعة البريطانية، فإن ممارسات التمييز زادت وتضخمت.. مع فوز
حزب «بهاراتياجاناتا» فوزاً ساحقاً في انتخابات 2014 وهو الحزب القومي الهندوسي.
وتعود الجهة صاحبة التقرير بجذور هذا العداء، إلى الفترة التي امتدت من سنة 1526 إلى سنة
1857، التي حكم فيها المسلمون المغول الهند؛ خصوصاً خلال حكم السلطان أبوالمظفر محيي
الدين محمد الملقب بأوزنك زيب.
وهنا مربط الفرس، الذي أود التوقف عنده.. قبل أن أستكمل مظاهر التمييز ضد المسلمين في
الهند، وأسباب هذا التمييز عند من يقومون به.
وبداية، وفي كثير من مناطق التوتر والاحتقان والاصطدام العنيف.. يجب أن نفتش عن بريطانيا،
خاصة هنا فى منطقتنا أو في شبه القارة الهندية. ثم يجب ألا نغفل مسارات تاريخية يتم
استدعاؤها من العقلية المتطرفة المحتقنة.. عند أي منعطف، ويشتعل أوار لهيبها، الذي يُفترض
أنه خمد وانتهى بحكم مرور قرون من الزمن.
وكما استدعى الصرب أفعال العثمانيين، يستدعي المتطرفون الهندوس أفعال المغول، ولذلك –
وكما نقول بالبلدي «أضع يدي على قلبي» – عندما يبادر بعض المتطرفين الطائفيين في وطننا..
على الجانبين، باستدعاء بعض الأحداث أو المسارات التاريخية، التي تغذي عندهم ماهم فيه،
ويتخذونها غطاء شرعياً لشذوذهم السياسي والحضاري.
وأعود إلى ما يُعتبر ممارسات تمييزية ضد المسلمين، ومنه التعديلات التى أجراها الحزب الحاكم
على قانون المواطنة الصادر عام 1955، وكفلت التعديلات الحصول على الجنسية الهندية
للمهاجرين الهاربين من الاضطهاد الديني في باكستان وبنجلاديش، من أتباع الديانات السيخية
والهندوسية والبوذية والمسيحية والزرادشتية والجاينية، واستثنت المسلمين.
وفي تقرير صادر عن لجنة خبراء دوليين في يوليو 2024، اعتبرت المسلمين أقلية مضطهدة،
بعد سلسلة انتهاكات وصفت بالجدية – بدءاً من سنة 2019 – وحددت اللجنة بعض مظاهر التمييز
في خطابات علنية.. لعدد من السياسيين في الحزب الحاكم؛ تكرس الصورة السلبية للمسلمين، من
خلال تضخيم الخشية من تحوُّل المسلمين لأكثرية خلال سنوات، وتهويل ما يسمى خطاب
«الحب»، إذ يحولون بين أي زواج من مسلم بهندوسية، حتى لو ادعى أنه هندوسي.. ثم ما
أشرت إليه وهو البعد التاريخي المرتد لأيام حكم المغول!
وعلى الجانب الآخر، فإن الأمر لا يختلف كثيراً في باكستان، حيث مظاهر التفكير والخطاب
والسلوك المتطرف.. موجودة أيضاً، وهنا يجب أن أتوقف. لأعيد – وأؤكد – ما دأبت على كتابته
في هذه المساحة، وهو دق أجراس التنبيه والتحذير من الانجرار للمنزلق، ومن ثم المستنقع
الطائفي.
إن القضية هناك في شبه القارة الهندية.. ليست الحادث الذي وقع في مقاطعة كشمير، الذي هو –
رغم خطورته وأهميته – ليس إلا فتيل اشتعال لمخزون «مواد مشتعلة».. على المستويات
العقيدية والثقافية والسياسة.
ويا خفي الألطاف نجنا مما نخاف.