أحمد الجمال
مثلما هي براقة.. تبدو حقاً يراد به حقاً، فإن الأخرى تبدو كذلك أيضاً، وأقصد بالأولى عبارة «البشر قبل الحجر»، وأقصد بالثانية «إدارة الفقر وإدارة الثروة».
وبالقطع فإنه لا أحد – ولأول وهلة – ينحاز للحجر على حساب البشر.. ولا أحد ينحاز للفقر على حساب الثروة.
ولكن، وبما أن كل عبارة تحمل معنىً – أو رأياً – لا تفهم إلا بنسبتها لمكانها وزمانها وقائلها، ومضمونها وهدفها المعاصر.. وأكرر المعاصر؛ لأن الألفاظ كائنات حية.. تولد وتنمو، وتأخذ مضامين متغيرة.. إلى أن تموت، ولطالما سمعنا وعرفنا أن لغات بأكملها ماتت؛ أي أضحت.. إما موجودة الألفاظ، ولكنها لا تُستخدم إلا لأهداف بحث علمي، وإما متلاشية رغم استمرار بعض ألفاظها.. في لغات ولهجات تالية عليها.
والمهم أن حكاية البشر والحجر ارتبطت بانتقاد توجه نظام الحكم الحالي.. لتأسيس وتطوير وتعظيم دور ما يسمى البنية التحتية، من طرق وجسور ومدن جديدة، وموانئ بحرية وجوية وبرية، ومقار لمؤسسات الدولة، وانطلقت العبارة ليتبناها أحد رموز العمل السياسي المصري، وممن يتقدمون صفوف التيار الليبرالي، ويتم الرد عليه بأن العبارة حق يراد به باطلاً؛ خاصة أن الحجر الذي يتم الاعتراض على أولويته ليس نصباً تذكارياً، ولكنه من ألزم لزوميات أي نهضة وطنية متكاملة الجوانب؛ حيث لا تنمية شاملة – زراعية وصناعية وخدمية وتجارية أو اقتصادية بوجه عام – إلا بوجود هذه البنية التحتية، وأنها كلها خططت ونفذت من أجل البشر، وبغيرها لا يجد البشر سبيلاً لحياة مقبولة.
ولو كانت العبارة قد صيغت بطريقة أخرى.. كأن تصير «بعد الحجر لا بد من البشر»، أو «الحجر والبشر معاً»، أو «بغير البشر يضيع الحجر» وهلم جرا؛ لكانت أكثر توفيقاً.
ثم نأتي للعبارة الثانية – التي هي «إدارة الفقر وإدارة الثروة» – ويتبناها – بل ربما من صكها بالعربية، وروج لها.. ولا تخلو كتاباته وأحاديثه من ترديدها – أحد من يعتبرون أنفسهم دعاة ليبرالية رأسمالية.. موغلة في التزامها بأصول ذلك التوجه. وبعيداً عن أصوله الاجتماعية ومساره الفكري والسياسي والوظيفي، فإنه يعمد لوصم الحقب الزمنية – من منتصف الخمسينيات إلى مطلع السبعينيات – بأنها أفقرت الوطن، واتخذت من إدارة الفقر فلسفة ومنهجاً.. أدى إلى التخلف والهزائم، وإلى آخر الأسطوانة إياها!
وقد تكون عملية تحرير المصطلح – أي فهمه – لغة ومضموناً، ورصد تطوره أمراً وارداً عند المناقشة، إذ نجد الخلل في صوغ العبارة.. بوضع الفقر في مقابل الثروة. لأنه في اللغة يكون الفقر مقابل الغنى أو الثراء، ثم إن تعريف الثروة.. يتسع لكل ما هو من الموارد الطبيعية، والبشرية، ومجالات النشاط الإنساني كافة؛ لدرجة وصل فيها الأمر لاعتبار التراث الشعبي، والفولكلور المعنوي والمادي.. أحد مصادر ومعالم الثروة.
وهنا يحضرني نقاش دار بين أحد الحضور وبيني – في مناسبة اجتماعية – وبعد أن قدَّمني صاحب الدار، مشيراً إلى توجهي السياسي، انبرى الضيف الآخر في صب اللعنات على يوليو وناصر.. وما اشتق منهما، ومن تبعهما. فسألته عن أصله الاجتماعي وتعليمه وسنة تخرجه، ثم سألته – بعد أن عرفت الإجابة الأولى – «حضرتك في سوق الرجال تسوى كام؟».. فاندهش.
وزدته شرحاً: «طالما هي حرية السوق، وقوانينها، وكل أمر يجب أن يكون محكوماً بها، فحضرتك أحد منتجات تلك الحقبة، التي أنصفت فئتك الاجتماعية.. ولو نسبياً، وكفلت لك التعليم والسكن والصحة.. بتكلفة شبه مجانية، وكفلت أيضاً وظيفة.
… وعليه، فإن حضرتك مطالب بأن تقول لنا كم تساوي مالياً.. بتعليمك وشهادتك وخبرتك، وإنتاجك الذهني والمادي، ثم تضرب مجموع ذلك في ملايين النساء والرجال – الذين نالوا الفرص نفسها – لتجد نفسك أمام ثروة هائلة.. من الأرصدة النقدية، فإذا ترجمتها لذهب – بسعر سنة تخرجك – فإنك أمام مئات الأطنان»!
ثم أردفت، وقلت: إن تلك الحقبة لم تتم مشروعها الوطني اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وربما يكون ضربها بالعدوان الخارجي، والتخطيط المضاد إقليمياً ودولياً، وبالأخطاء الداخلية، هو أهم سبب لعدم الإتمام. وتشير الوثائق المتوافرة والكثيرة – المتضمنة محاضر اجتماعات رسمية لأعلى المستويات – إلى أن التوجه للتصحيح وتلافي السلبيات.. كان واضحاً، وتم رسم مراحله، واتخذت خطوات في سبيله.
كانت إدارة الوطن في تلك المرحلة.. تعلي من شأن الثروة البشرية، والثروة العلمية والبحثية، والثروة الفكرية والثقافية، والثروة بالدور والموقع، وتعمل على تنمية الثروات والموارد الطبيعية، فكانت السيطرة على القناة، وكان بناء السد العالي.. وسلسلة المصانع التي يحاول الوطن إعادة بنائها الآن، وترشيد ما تبقى.
ولذلك لم تشهد تلك الحقب انتفاضات اجتماعية، ولا فتناً طائفية، ولا اختراقات هائلة، ولا انحساراً للدور.
ويبقى في الحديث بقية عن الفرق بين إدارة الثروة وإدارة الإثراء.
نقلاً عن «المصري اليوم«