Times of Egypt

الصراعات الهوياتية المتخيلة وأوهامها

M.Adam
نبيل عبدالفتاح

نبيل عبدالفتاح

إحدى الظواهر السلبية في غالب الفكر العربي الحديث والمعاصر، هي سوء استخدام الآلة الاصطلاحية الغربية، في ضبط معناها ودلالاتها، وسياقاتها المفاهيمية والنظرية، وتوظيفاتها؛ سواء في الدرس والبحث الأكاديمي، أو الكتب والمقالات العلمية والصحفية، وفي الإعلام المسموع والمرئي، وبات ذلك تعبيراً عن ظاهرة الفوضى الاصطلاحية، والتشوُّش الفكري، والعلمي، ومرجع ذلك عدم التخصص، ونقص الاطلاع على النظريات والمفاهيم في العلوم الاجتماعية، والفلسفة، والقانون، والاقتصاد، وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، والنظريات السياسية، والعلاقات الدولية، والسياسة الخارجية والنظم السياسية… إلخ، وفي النظريات الأدبية والجمالية. تعود الفوضى إلى تراجُع مستويات التعليم الجامعي، والترجمات الجزئية، وبعضها يشوه أصول الفكر الغربي، وتطوراته المتسارعة، أو لجوء بعضهم إلى الترجمات غير الدقيقة، ثم إن الترجمة الآلية.

لا شك أن الفوضى الاصطلاحية ساهمت في تحفيز الصراعات.. بين من يطلق عليهم مجازاً «الأكاديميين، والمفكرين والمثقفين، والإعلاميين، ورجال السياسة من البيروقراطية»، ومن ثم تزايدت وتفاقمت هذه الفوضى العارمة، مع ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، والانفجارات المتواصلة، وفائقة السرعة للمنشورات، والتغريدات، والصور، وفيديوهات الطلقة الوجيزة، والمحمول بعضها على الأكاذيب السوداء، والمعلومات الخاطئة، والفتاوى الدينية والمذهبية، والطائفية والآراء والانطباعات المرسلة، والرغبات الجامحة، وأحكام القيمة الأخلاقية، أو اللا أخلاقية. كل تفاصيل الحياة باتت كاشفة عن الجماهير الرقمية الغفيرة، أياً كان مستوى تعليمها، أو تكوينها الثقافي، أو مستويات وعيها. عالم بات مكشوفاً بالرغبات، ومحاولات إثبات وجودهم الذاتوي، والسعي لجذب واختطاف الاعتراف بوجودهم من الآخرين على الحياة الرقمية. 

في ظل الثورة الرقمية، تفاقمت مشكلة المصطلحات التي يوظفها بعضهم في خطاباته الرقمية، والفيديوهاتية دونما معرفة بمعناها، وتطوراتها، وأصولها النظرية، وهى ظاهرة، وتجلٍّ لإثبات أن الذوات والعقليات الرقمية لبعضهم على معرفة وثقافة، بينما يبين من استخدام المصطلح، عدم المعرفة الفاضحة، والتي تُعرِّي ذوات قائليها وكاتبيها. من بين المصطلحات التي باتت تُستخدم كثيراً منذ عقد الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي وحتى الآن، مصطلح الهوية الذي تستخدمه بعض الجماعات الإسلامية السياسية، والراديكالية، والسلفية، وأيضاً بعض من ذوي الاتجاهات شبه الليبرالية، وآخرون بعضهم يستخدم مصطلح الهوية من منظور ديني أحادي، وكأن الهوية ترتبط بالدين والمذهب فقط، ومن ثم تتحدد بالانتماء الديني والمذهبي فقط، ومن ثم هي تتحدد سلفاً، ومن ثم الهوية الدينية والمذهبية عابرة للزمان والمكان والثقافات والقيم، وتعلو عليهم جميعاً. 

الهوية الدينية والمذهبية أيضاً – كجامع لأقلية من الأقليات الدينية في العالم العربي – يبدو إحدى سمات التصورات المتخيلة واللاتاريخية المناهضة لمفهوم الهوية، لاسيما في مجتمعات انقسامية، ودول حديثة الاستقلال، ولا تزال هشة. 

من الملاحظ أن مفهوم الهوية ارتبط بنشأة الدولة/الأمة، وحركة القوميات في أوروبا وتطور الرأسماليات الأوروبية والغربية. المصطلح «هوية» يتسم بالتعقيد والتركيب، والتناقضات، والتغير، ولا يقتصر فقط على المكوِّن الديني، أو المكوِّنات الثقافية والسياسية، والعرقية، وفي ذات الوقت المكوِّنات الهوياتية ليست ساكنة وجامدة، وإنما متغيرة ودينامية، وهى تعبير عن متغيرات وتحولات سوسيو-ثقافية، واقتصادية وتكنولوجية لجماعة من الجماعات، وتشكل نظرتهم الجماعية إلى حد ما، وإدراكهم الجمعي لها، وإزاء الآخرين من الجماعات والشعوب الأخرى، ونظرتهم للعالم. الدين وتفسيراته وتأويلاته يمثل أحد المصادر والمكونات لمفهوم الهوية الدينامي ضمن مكونات أخرى. من ثم الهوية، وفقاً للوي جاك دوري، هي جماع الصفات التي تطبع أي شعب في نمط حياته ورؤيته للعالم.

التوظيفات السوسيولوجية للمفهوم في الدراسات والبحوث، تجلت في النصف الثاني من عقد الأربعينيات من القرن الماضي، ومن ثم استعادته من بعض الباحثين في تحليل بعض انعكاسات ونتائج صدمة هزيمة الخامس من يونيو 1967، وذلك على المجتمع المصري، وأصبح المفهوم يوظَّف سياسياً، مع السياسات الدينية للسادات، وبعد اتفاقية كامب ديفيد. أدى تجميد عضوية مصر في الجامعة العربية إلى جدل وسجال بين بعض المثقفين الكبار، وعلى رأسهم توفيق الحكيم، وحسين فوزي، ولويس عوض، وحسين مؤنس، وآخرين. بعضهم لجأ إلى مفهوم القومية المصرية ضد القومية العربية – التي كانت شعاراً أيديولوجياً.. لم تكتمل شرائطه السياسية والاقتصادية والاجتماعية – من وجهة نظر الاتجاه شبه الليبرالي، وكأنَّ ثمة تناقضاً بين مفهوم القومية المصرية، والعروبة الثقافية. بعض المثقفين والمتعلمين – على قلتهم – تماهوا مع بعض أفكار القومية المصرية، مع تمجيد للمرحلة شبه الليبرالية 1919-1952- مع نسيان الاختلالات النظم الهيكلية التي أدت إلى انهياره، وأيضاً تراجع دور حزب الحركة الوطنية المصرية الوفد، وسيطرة الطبقة شبه الانطباعية، وشبه الرأسمالية على قيادة الحزب وبروز بعض الأحزاب القبطية. 

مع ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، وتدهور مستويات التعليم، واللغة العربية، أصبح التشظي، والتذرِّي سمة الانطباعات المرسلة حول هوية مصر، والصراعات الهوياتية بين بعض المجموعات الرقمية على وسائل التواصل الاجتماعي، وميل بعضهم إلى نشر أوهامه ومتخيلاته الهوياتية، وأفكاره النمطية على أنها تمثل هوية مصر الجامعة، والميل إلى التعميمات المفرطة، وتحيزاته الأيديولوجية والدينية والمذهبية. الملاحظ أن مستوى الخطاب حول الهوية المصرية ذات البُعد الأحادي، واللاتاريخي، تتسم بالسطحية، ودون مستوى السجالات التاريخية حول القومية المصرية وبعدها العروبي في المرحلة شبه الليبرالية ومرحلة السادات.

نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة