عبد الله السناوي
«سنهزم هؤلاء الوحوش، وسنعيد رهائننا إلى الوطن».
كان ذلك تصريحاً لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.. محملاً برسائل بالغة الخطورة.. عقب
عودته من واشنطن. إنه إعلان صريح بنجاح مهمته في البيت الأبيض، التي تعني بالضبط.. الإفلات من
ضغوط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإنهاء وقف إطلاق نار في غزة، مع «الوحوش الفلسطينيين»!
قبل أن يغادر العاصمة الأمريكية، ذكر المعنى نفسه: «إذا لم نحقق أهدافنا بالتفاوض فسوف نحققها
بالقوة»، لكن نتنياهو بدا – عند عودته – أكثر عدوانية، واستعداداً للمُضي في حرب الإبادة على غزة..
بغير سقف زمني.
بفوائض قوة يستشعرها، طلب مجدداً: «تفكيك المقاومة الفلسطينية، ونزع سلاحها، وإطلاق سراح جميع
الأسرى الإسرائيليين في غزة». هذا طلب إذعان، لا تفاوض.. قيل إنه في مراحله الأخيرة.
«لا يمكن التوصل إلى اتفاق شامل». كان ذلك توصيفاً آخر – أكثر صراحة ووضوحاً – لطبيعة الصفقة
التي يمكن أن يمررها.. لوقف إطلاق نار مؤقت في غزة، قبل أن يعود إلى الحرب بعد ستين يوماً.
«إسرائيل تريد إنهاء الحرب» – كما يطلب «ترامب» – لكن وفق شروطها.
حسب التصريحات الصادرة عن الجانبين الأمريكي والإسرائيلي، فإنه تجمعهما «رؤية استراتيجية
واحدة». هذا يفسر – إلى حد كبير – ما تستشعره إسرائيل من فوائض قوة.. تدعوها إلى الحرب على أكثر
من جبهة؛ بعضلات غيرها.
السؤال الرئيسي هنا: من يقود الآخر.. «ترامب» النرجسي؟ أم «نتنياهو» المراوغ؟
قبل محادثات واشنطن، صرَّح «ترامب»: «سوف أكون حازماً جداً مع نتنياهو»، لكنه لم يصل إلى أي
اختراق.. تطلع إلى إعلانه من واشنطن، حتى يكون ممكناً أن يبدو في صورة من يستحق جائزة «نوبل
للسلام».
في نفس المحادثات، خاطب «نتنياهو» نرجسيته المفرطة، بتسليمه وثيقة أرسلها إلى لجنة «نوبل
للسلام».. ترشحه للفوز بها، وهو يدرك أن مجرد ذكر اسمه – بإرثه وجرائمه، التي استدعت استصدار
مذكرة توقيف بحقه من المحكمة الجنائية الدولية – إهانة بالغة للجائزة.
بعد المحادثات، أكد «نتنياهو»: «من المستحيل تماماً.. التوصل إلى وقف إطلاق نار دائم».
إنه رفض صريح.. لأية صفقة تنهي الحرب مرة واحدة؛ خشية تفكك ائتلافه الحكومي.. تحت ضغط
وزيرَي الأمن القومي ايتمار بن غفير، والمالية بتسلئيل سموتريتش.. المتطرفَين.
لم يسجل المراوغ المحترف.. أي اختلاف مع ترامب، لكنه وضع خطوطاً حمراء.. باسم الأمن
الإسرائيلي، تجعل من فكرة الصفقة الشاملة مستحيلة تماماً.
هاجس نتنياهو، هو مصالحه السياسية، قبل الأمن الإسرائيلي؛ خشية أن يجد نفسه خلف القضبان..
محكوماً عليه بالفساد والاحتيال، وتقبل الرشى.. إذا ما تفككت حكومته. حرص نتنياهو – وهو في واشنطن
- على الاتصال الدائم بـ«سموتريتش».. الأكثر حرصاً من «بن غفير»، على البقاء في الحكومة.. لطمأنته
أنه لن يعقد أية صفقة شاملة.
لم يكن مستغرباً، أن ينتحل وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو الأعذار لـ«نتنياهو»: «حماس
رفضت نزع سلاحها، وإسرائيل أبدت مرونة».
الشق الأول من الكلام.. صحيح، والشق الثاني.. لا دليل عليه.
ماذا يقصد بالضبط بـ«مرونة إسرائيل»؟
لا شيء مطلقاً.. إنه الولاء لها قبل الإدارة، التي يخدمها.
بنى «نتنياهو» مناوراته مع «ترامب».. على التمركز عند طلب أن يكون الاتفاق جزئياً، ومؤقتاً لمدة
ستين يوماً.. يستعيد خلالها عشرة من أسرى إسرائيليين.
بترجمة سياسية، فالمعنى – بالضبط – خسارة المقاومة الفلسطينية نصف أوراقها التفاوضية، دون أن
يفضي ذلك إلى إنهاء الحرب.
بترجمة سياسية أخرى: تخفيف ضغط حلفائه اليمينيين المتطرفين عليه، دون أن يتخلى عن استهداف
العودة إلى الحرب مجدداً.. بذريعة فشل المفاوضات مع «حماس»، في التوصل إلى وقف نار مستدام.
هذا سيناريو شبه مؤكد، إلا إذا مارس «ترامب» ضغوطاً حقيقية على «نتنياهو».
المشكلة هنا، أنه لا يقدر على هذا الخيار وتبعاته، بالنظر إلى طبيعة إدارته. لتجاوز تلك العقدة، اقترح أن
يحصل «نتنياهو» على عفو من المحاكمة، التي تتهدده في مستقبله السياسي. كان ذلك داعياً إلى انتقادات
واسعة لـ«ترامب».. داخل إسرائيل نفسها.
المفارقة الكبرى، أن الشعور الإسرائيلي الطاغي بالقوة.. يتناقض مع تصريحات رئيس الأركان «إيال
زامير»، عن ضرورة وقف إطلاق النار في غزة بأي ثمن، تعبيراً عن الجو العام داخل الجيش؛ فلا بنوك
أهداف جديدة، والخسائر في صفوفه فادحة.
رغم ذلك كله، يصف نتنياهو إسرائيل.. بأنها أصبحت قوة عظمى؛ رغم تراجع مكانتها في العالم كله..
جراء حرب الإبادة، التي تشنها على غزة.
ثبت بيقين – حرباً بعد أخرى – أنه ليس بوسع إسرائيل ربح المواجهات العسكرية وحدها؛ فلولا تدخل
الولايات المتحدة عسكرياً واستخباراتياً.. بعد السابع من أكتوبر (2023)، لَلَحِقت بها هزيمة استراتيجية
مروعة.
لم يتم التحقيق في حوادث السابع من أكتوبر، استقال على خلفيتها قادة عسكريون وأمنيون، غير أن
المسؤول السياسي الأول.. يرفض الامتثال لأي تحقيق؛ خشية إجباره على التنحي عن منصبه.
ولولا تدخل الولايات المتحدة مرة أخرى، في حرب إسرائيل مع إيران، لما كان ممكناً أن تصمد طويلاً..
تحت وطأة الخسائر الفادحة، التي طالتها الصواريخ الباليستية.
بنص كلام ترامب: «لقد أنقذنا إسرائيل، والآن سوف ننقذ نتنياهو».
مأزق الرئيس النرجسي؛ أنه قد يبدو ضعيفاً، ومنقاداً.. لمناور محترف.
الضعف، أكثر ما يزعج ترامب.. أن ينسب إليه، لكنه واقع الآن.. في أفخاخ نتنياهو.
نقلاً عن «الشروق»