أحمد الجمال..
يتابع المراقب المنصف الواعي.. تحرك مصر السياسي والدبلوماسي في القرن الأفريقي – وضمنه باب المندب وخليج عدن – فيدرك الأهمية الاستراتيجية القصوى لقاعدة برنيس العسكرية المصرية.. جنوب شرق مصر. ويدرك أن هناك من يخطط لصون أمن الوطن.. على المدى الاستراتيجي الطويل، وأن التخطيط يتحول إلى منجزات واقعية على أعلى وأحدث مستوى، تديرها إرادات وعقول تدرك جسامة المهمة الملقاة على عاتقها، وتؤمن بأن بذل الجهد والعرق والوقت في التدريب والاستعداد، يوفر الدم لحظة أن يحتاج الأمر قتالاً للدفاع عن الوطن.
ندرك أهمية تأمين مصر.. بمجموعة قواعد عسكرية شمالاً وغرباً وشرقاً وجنوباً، لنعرف – إضافة لما سبق – أن القضية لم تكن ولن تكون.. مفاضلة باطلة بين الحجر وبين البشر، لأنه لا بنية أساسية في كل المجالات.. بدون أسس وصروح مادية، التي بمجرد إنجازها بواسطة البشر والتكنولوجيا، تصبح صالحة لبشر آخرين يتعاملون معها، ويوظفونها التوظيف الأمثل للمهمة التي أنشئت لأجلها.
ولأننا بصدد تعميق وتنفيذ الرؤية المصرية لأمن البحر الأحمر، بالمشاركة مع أشقائنا الأفارقة والعرب، فإنه من الوارد أن أخصص ما تبقى من سطور.. للحديث عن برنيس وعموم جنوب ساحل البحر الأحمر في مصر، لأن تلك المنطقة.. ليست فراغاً تشغله الجبال والوديان والرمال ومياه البحر، ولكنها عمار تملؤه حياة بشرية.. ممتدة من عمق التاريخ إلى الآن.
ومن أسف، فإن ندرة من النخبة الثقافية والعلمية والسياسية.. هم الذين لديهم معلومات وافية عن البشر المصريين، الذين يسكنون تلك المنطقة.. أصولهم وانتماءاتهم القبلية وحياتهم الاجتماعية والاقتصادية وثقافتهم السائدة. وأعتقد أنه من العيب.. ألا ينتبه كثيرون من تلك النخبة إلى دراسة مكونات التعدد والتنوع المصري، الذي يمكن أن يكون مصدر قوة متعاظمة للكل المصري، بمقدار أن يكون مصدر ضعف أيضاً، والأمر هنا يعتمد على مدى الوعي الجمعي والنخبوي.., بأهمية دراسة هذا التنوع وجعله مصدر قوة؛ بحمايته من أعراض العزلة والاغتراب عن الوطن، كي لا يغزوه فيروس التفتيت، الذي طالما حاول أهل الشر أن يصيبونا به.
ولقد عرفت من المصادر السريعة– المتاحة – أن برنيس تأسست كميناء في النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد، وعلى يد الملك بطليموس الثاني، وأطلق عليها اسم والدته «برنيكة» الأولى، وقد أصبحت ميناء تجارياً عام 275 قبل الميلاد، وفي العصر الإسلامي، أطلق عليها اسم مدينة «الحرس». ثم إن الله منّ على العبد لله.. بصداقة مع الأستاذ الدكتور المثقف الوطني إبراهيم فوزي، الذي من ضمن ما أسرني به، مجموعة مؤلفات للأستاذ الدكتور محمد رجائي جودة الطحلاوي – الأستاذ بكلية الهندسة جامعة أسيوط، ورئيس الجامعة، ومحافظ أسيوط الأسبق – وهي مؤلفات متنوعة تمتد من الصوفية إلى التاريخ والجغرافيا.
وأدعو الله أن يجعل جهده العلمي والروحاني.. في ميزان حسناته، لأنني عندما اهتممت بمعرفة المعلومات الإثنية والجغرافية والتاريخية عن صحرائنا الشرقية – بما فيها ساحل البحر الأحمر – لجأت إلى كتاب بعنوان «سكان الصحراء الشرقية المصرية.. المعازة.. العبابدة.. البشارية»، من إعداد الدكتور الطحلاوي، وإصدار دار الكتب والوثائق القومية عام 2008، ويتكون من ثمانية أقسام هي «إيكولوجية الصحراء الشرقية»، و«أصل سكان الصحراء الشرقية»، و«قبائل المعازة»، و«قبائل البجا.. العبابدة والبشارية»، و«أهم الوديان بالصحراء الشرقية»، و«ميناء عيذاب»، ثم النظام الاقتصادي والحياة الاجتماعية والعادات، وأخيراً «الأدب والفن البدوي»، والكتاب مزود بالأشكال وجداول شديدة الأهمية، من حيث دلالاتها، ولست بصدد تلخيص الكتاب؛ لأنه سهل ممتنع لا يقدر أحد أن يختزله، إذ كل سطر فيه يتضمن معلومة، وأظن أنه من الممكن التركيز في هذه السطور على البشر.. المواطنين المصريين، الذين ظلوا على ولائهم، ووفائهم للوطن برغم تهميشهم.
ويقال إن «المعازة»، قادمون من الجزيرة العربية، نزحوا منها في تاريخ غير معلوم، ويعيشون في مجتمع قبلي متماسك تمتد جذوره من أب إلى جد، حتى جدهم الأكبر «ماعز بن الجبل»، الذي عاش منذ زمن طويل في شمال غرب شبه الجزيرة العربية، وهم يتتبعون الماء والكلأ، وعلاقتهم بالبيئة وثيقة، حيث يتعاملون مع دوابهم ومع النباتات الصحراوية، ومن أشهرها نبات «السكران» – قاتل الدجاج – بمهارة، ويشتهرون بصيد الغزلان والماعز الجبلي «التيتل»، ويستخدمون الكلاب والصخور والمدى في الصيد، ويكرهون بشدة استخدام الأسلحة النارية في الصيد، ولهم عاداتهم وأخلاقهم، ويعتزون بحياتهم، حيث يتمتعون بالحرية.
مع المعازة تأتي قبائل البجا (البيجا أو البيجة)، وتقع منطقتهم على الساحل الغربي للبحر الأحمر، وتبلغ مساحة منطقتهم نحو 11,0000أميال مربعة، تمتد حتى الحدود المصرية الجنوبية بعد بئر شلاتين، وإلى الجنوب حتى قرية قرورة، وغرباً إلى التلال المحاذية لشاطئ النيل حتى عطبرة، وكانت هناك مملكة مروى البجاوية.. وإضافة للرعي فهم يزرعون الذرة والدخن، يصنعون منها خبزهم وطعامهم، ولا يحصدون منها.. إلا ما يكفيهم مؤونة العام. وهم متجولون منذ 4000 سنة قبل الميلاد، ويقال عشرة آلاف سنة. وربما يكون للحديث صلة عن تلك المنطقة الاستراتيجية، وبالتحديد عن سكانها اجتماعياً وثقافياً.
نقلاً عن «الأهرام»
اليقظة المصرية في البحر الأحمر

شارك هذه المقالة