عادل نعمان
.. ولن تجد مثالاً حياً ونموذجاً واضحاً.. للافتئات على الحقيقة وطمسها، واختلاق بطولات مكذوبة، وتأصيل شرعي مصطنع – كما تختلق وتطمس وتؤصل هذه التنظيمات الإرهابية في أفغانستان وليبيا – كما في سوريا،؛ جميعها على حد سواء، فإن هيئة تحرير الشام – النسخة المعدلة للدواعش – قد تركت العدو الإسرائيلي يعربد في لبنان وفي غزة، وتوجه نيران مدافعها ناحية دمشق.. للاستيلاء على الحكم واستلابه، وكان من باب أولى.. توجيه هذه النيران صوب العدو الإسرائيلي، الذي بدأ يتوغل في الأراضي السورية، واحتل جبل الشيخ.. بعد سقوط دمشق في أيديهم، ويقوم بتدمير ما تبقى من أسلحة وذخائر الجيش السوري بطائراته المقاتلة.. «وعليه العوض». وأتذكر ما قاله الشيخ القرضاوي – في تأجيل الحرب ضد العدو الصهيوني – حين أفتى «بأن الأولوية الأولى محاربة المنافقين، فهم أشد خطراً على الإسلام من العدو الصهيوني»، فلا ربحت تجارتهم ولا نامت أعين الجبناء.
وسأجيبك فوراً على سؤال منطقي يردده الجميع: هل من المعقول أن تترك هذه الجماعات ميادين الجهاد الصريحة والحقيقية، وتتخلى عن جهاد الدفع – أو «دفع الصائل» – ضد العدو الصهيوني، الذي يقتل ويشرد ويُهجِّر، ويبيد وينتزع الأرض، ويمارس التطهير العرقي تجاه شعب غزة، ثم توجه أسلحتها ومدافعها تجاه الأشقاء.. مهما كان من خلاف مع حكامهم؟ الغريب أن الدولة الدينية – التي ينادي بها هؤلاء ويقاتلون من أجلها – لا تقل ديكتاتورية عن أحط أنواعها.. في تاريخها كله، بل تزيد وتتفوق عليها من قديم الزمان حتى طالبان وداعش.
والإجابة يا سيدي.. أن المسائل العقدية عندهم، تتغلب وتتفوق على كل القيم الإنسانية، والمبادئ الاجتماعية والضوابط القانونية، وما انعقدت عليه البشرية.. من العادات والتقاليد، وما استقرت عليه المجتمعات من ترتيب الأولويات.. التي تفرضها الحاجة والمصلحة؛ فتطبيق القاعدة الشرعية – كما «يظنون» – له الغلبة.. مهما تكلف الناس وخسروا، ولا تخضع هذه الأولوية والأسبقية لميزان العدل، أو الرحمة أو الإنسانية أو الربح والخسارة؛ فإن الوصول إلى الحكم وإقامة الخلافة.. لهما القدم الأولى، والسبق.. عن الجهاد ضد العدو؛ غازياً أو مستعمِراً، فإذا ما وصلوا للحكم.. يأتي دور الجهاد ضد الأعداء. ونعطي على هذا مثالين، لتغليب المسألة العقدية على كل القيم الإنسانية.
«الوفاء بالعهد والالتزام بالوعد» (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً).. قيمة إنسانية لا خلاف عليها بين الأديان، إلا أن هذا التيار – بتشكيلاته جميعها – ينقضون العهود ويفسخون الوعود؛ مخالفين ما رُوي عن النبي (آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) وهم الثلاثة دفعة واحدة، وهذا ما اقترفه هذا التيار مع الرئيس السادات.. حين فتح لهم أبواب السجون، وتقابل مع نائب المرشد عمر التلمساني في القناطر الخيرية.. بصحبة عثمان أحمد عثمان، واتفقوا وتعاهدوا وأقسموا – جهد إيمانهم – على التواجد في الشارع والجامعات، يمارسون العمل الدعوي فقط.. لإيجاد توازن أيديولوجي، يحجم المد الناصري الاشتراكي، الذي ورثناه عن الحقبة الناصرية، إلا أن عقيدة الوصول للحكم وإقامة الخلافة، وهي أصل أصيل وركن ركين من أركان الدين، تقوض وتهدم ما تم الاتفاق والقسم عليه، فإذا أزفت الآزفة، وحان وقت الانقضاض.. هبوا وانتفضوا، حتى لو هلك من هلك، وقُتل السادات بأيديهم.
وأما عن قيمة «العدل والرحمة».. فقل فيها ما شئت، وأتذكر – بالمناسبة – حواراً تم مع أحد الإرهابيين.. عن الذنب الذي ارتكبته طفلة بريئة، كانت تمر بجوار سيارة مفخخة في وسط القاهرة، تم تفجيرها بواسطة إرهابي متطرف، ومات في هذا الحادث عدد من الأبرياء، وكيف سمح قلب هذا الإرهابي له.. بأن يقوم بهذه الجريمة، وهو يعلم علم اليقين.. أن الكثير من الأبرياء سيواجهون خطر الموت دون جريرة، فقد أجاب بكل ثقة «إن العقيدة أقوى من كل هذا، والوصول إليها أسمى من كل الفضائل».
وتعالوا إلى التأصيل الفقهي في هذا الشأن؛ «فأما هذه الطفلة البريئة، فمصيرها إلى جنة الخلد.. فما أسعدها وهذا المصير، ومن مات من غير المسلمين.. فهذا فضل عظيم عليه، لأن موته مبكراً أفضل من تعاظم ذنوب الكفر الذي يعتنقه». ويحضرني كيف كان يتم تدريب أطفال الدواعش.. على خنق الكلاب الصغيرة، وسلخها بعد موتها، لنزع معاني الرحمة عندهم، وكيف كان يُستدعى شقيق السارق.. لتنفيذ قطع يد أخيه، لتصبح العقيدة عنده أقوى من صلة الرحم.
والآن إياك أن تخلط الأوراق، فلن يرفع هذا التيار عن كاهلك ما تعانيه، ولن يخفف عنك ما تحمله من أحمال، وسيجاريك في شكواك، ويقاسمك الاستياء، ويشاركك الشجب.. حتى إذا بلغ ساعة الصفر، أدار ظهره.. ساعياً إلى هدفه ومسعاه، حتى لو كان على جثث الشعب كله، وأُحذِّر الجميع من تضليل وإفك هؤلاء، فاجعلوا مصر أولاً وأخيراً.. هي الهدف الأسمى والمراد الأعلى، وأهمس في أذن أولي الأمر (اجعلوا الشعب أولاً وأخيراً أيضاً)، فليس أسوأ من أن تكون لغة الإرهابي وشكواه.. هي نفس لغة المواطن وشكواه أيضاً، الخطر أن يجتمعا في بداية الطريق، فيسهل التضليل والاستحواذ.
الدولة المدنية هي الحل.
نقلاً عن «المصري اليوم»