نبيل عبدالفتاح
الحركات «الشعبوية» – ومظاهرها المختلفة – ليست جديدةً في عالمنا، على الرغم من عمومية، وسيولة، وبعض غموض المصطلح في الخطابات السياسية، وأيضاً في بعض الدراسات الأكاديمية، لأن المصطلح يدور بين ثنائية المديح والقدح الضدية. ومن الملاحظ أن المصطلح جاء مع الأفكار الشعبوية.. في إطار الديمقراطية الليبرالية، مع الرغم من أن هذه الحركات تبدو مناهضةً لبعض الأفكار والقيم السياسية الليبرالية، وإزاء النخب السياسية، والاقتصادية المسيطرة.
الأفكار والجماعات الشعبوية.. ليست وليدة القرن الماضي والعقود الماضية من القرن الحالي، وإنما ظهرت في فرنسا، وروسيا، والولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، مواكبةً للسعي إلى تعزيز الديمقراطية الليبرالية في السياقات التاريخية والسياسية لهذه المراحل، وهي حركات تحاول تجاوز النخب المسيطرة، ومؤسساتها، وتتحدث دوماً باسم الشعب، أو الأمة، أو الجموع الشعبية الغفيرة؛ باعتبار الكتلةً الضخمةً، التي تسعى إلى تحقيق مصالحها الاجتماعية والاقتصادية.. في مواجهة مواقع القوة المسيطرة في كل بلد.
السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لشعبويات القرن التاسع عشر، تختلف عن شعبويات القرن الماضي.. وأوائل القرن الحالي، وإلى الآن. في كل مرحلة بدا تعريف الشعبوية عاماً، وسائلاً، ويفتقر إلى الضبط الدلالي، حتى إن القواميس الكبرى – ذات الرسوخ – مثل أكسفورد، وكامبريدج.. يقدمان تعريفاً عاماً، وغير محدد. قاموس أكسفورد يعرف الشعبوية (Populism) بأنها «نهج سياسي أو أيديولوجية تؤكد على الشعب ككتلة موحدة وقوية، وتعتقد أنها في صراع مع النخبة، أو المؤسسة الحاكمة، وأن مصالح الشعب تتعارض مع مصالح النخبة الحاكمة«.
قاموس كامبريدج يُعرف الشعبوية بأنها «أفكار أو أنشطة سياسية.. تهدف إلى كسب تأييد عامة الناس من خلال منحهم ما يريدون»، ويشير إلى أن هذه الأفكار في خطاباتها.. معاديةً للنخبوية، والمؤسسة الحاكمة. وأن الخطابات الشعبوية، وأنشطتها وممارساتها، تشير إلى دعم العدالة الاجتماعية، والتخفيضات الضريبية، وزيادة الأجور، وتوفير فرص العمل، والتعليم والصحة المجانية.
السياسات الشعبوية وقادتها.. يدافعون عن حقوق الناس عموماً/الشعب.. في مواجهة الأثرياء وذوي القوة في المجتمع. يستثير الخطاب الشعبوي المشاعر الجماهيرية الغاضبة والمعادية للنخب الحاكمة، والمؤسسات.. التي تسيطر عليها. شاع المصطلح في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الحالي، على الرغم من ظهور الشعبوية – وفق المعنى المعاصر – في القرن الماضي، لاسيما في الأرجنتين والحركة البيرونية، وفي البرتغال والأحزاب والجماعات الشعبوية.. لاسيما مع سالازار، وبعد ذلك مع بعض جماعات اليمين المتطرف في أوروبا، لاسيما في فرنسا، وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا وغيرها.
المصطلح شعبوية، وشعبوي.. يحملُ تقييمات سلبية، ويصفه الخصوم بالازدراء، والابتذال والإدانة، والغوغائية السياسية، والمديح الناطق باسم مصالح الشعب/الأمة، والنطق بها في مواجهة المؤسسات والنخب الحاكمة.
التجارب البيرونية، والسالزارية الشعبوية السلطوية، كانت تشكل أحد مصادر مرجعية بعض النظم السياسية العربية السلطوية.. في إطار حركات التحرر الوطني العربية، والعالم ثالثية، لاسيما في المشرق العربي، ثم ليبيا مع العقيد معمر القذافي. وقد فشلت بعض التجارب العربية الشعبوية السلطوية في العراق وسوريا، ومصر مع صدمة هزيمة 5 يونيو 1967، وانكشاف بعض من الخلل الهيكلي.. في هذه الأنظمة السياسية الشعبوية السلطوية؛ لأن قاعدة شرعيتها السياسية ارتكزت على التعبئة السياسية والاجتماعية، وتحالف الطبقات الاجتماعية، وسندها الفعلي.. كان الطبقة الوسطى، والسياسات الاجتماعية الداعمة لمصالح العمال والفلاحين والطبقة الوسطى-الصغيرة والوسطى-الوسطى.
أدت الصراعات، والنزاعات السياسية – في المنطقة العربية – إلى إضعاف الأنظمة الشعبوية السلطوية، وقادتها، وخطاباتها السياسية.. وذلك مع انفجار النزاعات الإقليمية وغزو العراق، وتمدُّد الشعبوية المذهبية في الإقليم، من خلال بعض الأذرع الإقليمية، وحركة الحوثيين، وحزب الله، والمقاومة الفلسطينية؛ ومن ثم إلى تأثرها السلبي.. مع حرب الإبادة الإسرائيلية، وضرب إيران، وهو ما سوف يؤثر سلباً على هذا النمط من الشعبويات المرتكزة على المذهبية الدينية السياسية.. في المراحل القادمة.
من الملاحظ أن أنماط الشعبوية السلطوية – التي سادت في الأربعينيات، حتى السبعينيات من القرن الماضي – مع الحركة البيرونية، تغيرت مع نمط الشعبويات اليمينية الأوروبية المتطرفة، التي تهاجم النخب السياسية والمؤسسات السياسية الأوروبية؛ بما فيها مؤسسات الاتحاد الأوروبي – في فرنسا على سبيل المثال – من خلال توظيف مشاكل الهجرة، وعدم اندماج الأجيال الثانية والثالثة والرابعة من أبناء المهاجرين، والهجرة القسرية – في ألمانيا – والهجرة غير المشروعة، خاصةً بعد فشل سياسات الاندماج الاجتماعي، وتمدد الأصولية الإسلامية المتطرفة، وسط أبناء الضواحي.. في فرنسا وبلجيكا، وعديد من الدول الأوروبية؛ خاصةً في ظل بعض ظواهر العنف الإرهابي، من الذئاب المنفردة، وانخراط بعض أبناء الجاليات الإسلامية في القاعدة، ثم داعش والسلفيات الجهادية.
الشعبوية اليمينية المتطرفة، يتسم خطابها السياسي ببعض من العرقية والقومية.. إزاء الأقليات الإسلامية، والإفريقية.. إلخ. وتمددت الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة في بعض الدول الأوروبية.. كفرنسا، بسبب أزمة القابلية للحكم crisis of governability في النظم الديمقراطية الليبرالية، التي ظهرت مؤشراتها في عقد السبعينيات من القرن الماضي، وتفاقمت بسبب هيمنة الرأسمالية النيوليبرالية على الدول والحكومات.. من خلال الشركات الكونية الضخمة، لاسيما الرأسمالية الرقمية الفائقة الثراء، ومعها الشركات الكونية الأخرى.. في مجال إنتاج السلع والخدمات. ومن ناحية أخرى، تفكك الروابط والعلاقات الاجتماعية بين الفرد والمجتمع والدولة، وتشظي العلاقات الاجتماعية.. على نحو أدى إلى عزلة الفرد، واستلابه.. في عالم الاستهلاك المكثف، وأيضاً إلى حالة المديونية الفردية.. لمواجهة الاستهلاك المتغير والمتسارع.
أدت الحياة الرقمية إلى بروز بعض الشعبوية الرقمية.. من خلال توظيف بعضهم لوسائل التواصل الاجتماعي.. في نقد وهجاء والسخرية من الحكومات والأحزاب السياسية، ومؤسسات النظام الديمقراطي الليبرالي، والمطالبة بإحداث تغيرات في بنية هذا النظام، ليكون معبراً عن المواطنين؛ لاسيما الطبقة العاملة، ومشاكل نظام الضمانات الاجتماعية والتأمينات والصحة، والاعتراض على رفع سن المعاشات، والاعتراض على رفع أسعار البنزين؛ على نحو ما تم وحفز على ظهور حركة السترات الصفراء، التي تم تعبئة المواطنين فيها.. للخروج في تظاهرات في باريس، والمدن الفرنسية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت تلعب دوراً بارزاً في التعبئة السياسية للجموع الرقمية، والفعلية الغفيرة، ويجد الفرد فيها بعضاً من التعبير السياسي عن مواقفه وغضبه إزاء الحكومات وسياساتها، وتجاه بعض من رتابة المؤسسات السياسية للنظام الديمقراطي الليبرالي، ونمطيتها، وأدائها الشكلي والنمطي والاستعراضي.
لا شك أن النخبة السياسية – ما بعد الحرب الباردة – باتت خاضعةً للشركات والمصارف الكونية، وعلى رأسها الرأسمالية الرقمية الكونية الضخمة، التي باتت تؤثر على هذه النخب السياسية الغربية، وسياساتها الاقتصادية، وقراراتها، وهو ما أثر على مفاهيم السيادة الاقتصادية، وهو ما بات يشكل أحد مصادر القلق الفردي، والجموع الغفيرة؛ خاصةً أن التطورات التكنولوجية والرقمية، والذكاء الاصطناعي التوليدي، بات يشكل تهديداً لفرص العمل، وتغييراً كبيراً في أسواق العمل، وأيضاً في ارتفاع معدلات البطالة في المقبل من السنوات، 50 مليون عامل سيخرجون من سوق العمل 2030، والمرجَّح – وفق بعض الدراسات أن الذكاء الاصطناعي – أنه في عام 2045 سيحل محل وظائف الذكاء البشري!
لا شك أن هذه المؤشرات، تشكل رهاب الخوف في المجتمعات الأكثر تطوراً في عالمنا.. للفرد والجموع الرقمية الغفيرة، في ظل تطور الإناسة الروبوتية. ومع ولاية ترامب الثانية، وخطابه وسلوكه الشعبوي، وشعاره فلتعد أمريكا عظيمةً ثانيةً، وسياساته، وتجاوزاته لبعض أسس النظام الليبرالي الديمقراطي الرئاسي.. تجاه القضاء، وبعض حكام الولايات، واستبعاداته لعديد من الموظفين من المؤسسات الفيدرالية الأساسية، أشاع في سياساته تجاه المؤسسات الأمريكية، قدراً من اللامبالاة بهذه المؤسسات.. تحت دعاوى أمريكا أولاً، ونزعته في سياساته الخارجية إلى بعض من القومية العرقية، وإزاء الهجرة غير المشروعة، وتجاه دول العالم الأخرى، وتركيزه على تخفيض الضرائب.
هذا النمط الشعبوي للنيوليبرالية الإمبريالية الأمريكية، يسهم في استمرارية الخطاب الشعبوي السلطوي في الشرق الأوسط، ومناطق أخرى في جنوب العالم، حيث اللامبالاة بالديمقراطية، وحقوق الإنسان.. لصالح تحقيق الصفقات الضخمة لصالح الاقتصاد الأمريكي، في مرحلة تتسم بالاضطراب، واللامبالاة بالقيم والمؤسسات الديمقراطية خارج الولايات المتحدة، ودعمه اللامحدود للسياسات الإسرائيلية في المنطقة، ومعها حرب الإبادة تجاه قطاع غزة، وضرب المشروع النووي الإيراني، لجعل إسرائيل القوة الإقليمية الأولى.
نقلاً عن «الأهرام«