Times of Egypt

جمال البنا.. النقابي والكاتب الإسلامي الذي قتلتْه مكتبتُه (3-6)

M.Adam
عمار علي حسن

عمار علي حسن..


بدأت علاقتي بالأستاذ جمال البنا.. وقت أن كنا سوياً من بين المدعوين إلى ندوة في «ميدلت» – من أعمال المملكة المغربية – حول «تجديد الخطاب الديني». وجدته في مطار القاهرة متعثراً – وهو الشيخ الطاعن في السن – تحت ثقل كرتونتين.. مملوءتين بملخصات كتبه، فأَعَنْته على حملهما، وعرفت منه أنه يعتزم توزيعها على الحاضرين في الندوة، وكثيراً ما كان يفعل هذا. وقاد هذا التصرف البعض.. إلى البحث عن كتبه بالفعل، ولاسيما في شرق آسيا – وخصوصاً إندونيسيا – التي عرفت حين زرتها، أن جمال البنا وحسن حنفي.. هما الأكثر قراءةً بين الشباب، إلى جانب الهيبة والمكانة التي يتمتع بها الأزهر وشيخه.. في نفوس الناس جميعاً هناك.
في يومٍ حضر البنا ندوة بالإسكندرية، وكان بها باحثون كثيرون من ماليزيا وإندونيسيا، وأمامنا وجدناهم يُقبلون عليه بحفاوة شديدة، وينصتون إلى صوته المتحشرج الواهن، ويذكرون عناوين كتبه.. التي طالعوها وراقت لهم، ورأيتهم فمصمصت شفتَيَّ – في مرارة – وقلت: «زامر الحي لا يُطرب».
كنت قد قرأت له بعض كتبه، لكن بعد رحلة المغرب هذه.. ترددت على بيته، في شارع الجيش بحي «باب الشعرية» في القاهرة. كان حريصاً على إهدائي مؤلفاته، وكنت أحرص على أن أدفع ثمنها، فالرجل يطبعها على نفقته الخاصة، في دار نشر يمتلكها، تنبع من «مؤسسة فوزية وجمال البنا»، وفوزية هي أخته الكبرى، التي ذهبت للعمل مدرسةً بالمملكة العربية السعودية، ولم تنجب، فتنازلت عن مدخراتها لأخيها الأرمل، الذي لم ينجب أيضاً، وكانت تُقدَّر – حسبما أخبرني – بنحو ثلاثمائة وخمسين ألف جنيه مصري، أنفقها على طباعة الكتب، ودفع مرتبات شهرية.. لرجل يكتب على الحاسوب.. ما يخطه البنا على الورق، وآخر يعمل أميناً للمكتبة.
كلما زرته، كنت أناقشه في مضمون كتبه، ويطول بيننا الحديث، وكنت أعجب من امتلاكه كل هذه المثابرة.. رغم تقدُّم سنه، فهو، وبينما كان يقترب من الثالثة والتسعين من عمره، كان يجلس إلى مكتب في صالة بيته، يكتب بهمة شاب.. يريد أن يثبت نفسه، على ورق «الدشت» اليسير أمام قلمه، فإن كنا في شهور الشتاء قارسة البرودة، أمدَّه أمين مكتبته بقربة مملوءة بماء ساخن، يضع يمناه عليها بعض الوقت، حتى يسرى الدفء في أوصاله.. فيكون قادراً على الإمساك بقلم جاف «بيك» بسيط، ثم ينهمك في الكتابة؛ منعزلاً عن كل مَن حوله وما حوله، حتى ينتهي من مقال، أو جزء في كتاب.
لا يعرف كثيرون أن جمال البنا.. له مؤلفات مهمة في «الفكر النقابي»، وترجم بعض الكتب في هذا المجال عن الإنجليزية، نشرتها منظمة العمل الدولية بجنيف، والجامعة العمالية بمدينة نصر، والدار القومية. وبلغت كتب البنا في هذا المجال نحو ثلاثين كتاباً.. عن الحركة العمالية والنقابية، تُعد أثمن ما في المكتبة العربية؛ مثل التاريخ النقابي المقارن (إنجلترا-أمريكا-الاتحاد السوفيتي)، ومثل الحركة النقابية الدولية، والحرية النقابية.. في ثلاثة أجزاء في مجلد، والحركة العمالية المصرية عبر مائة عام، والمعارضة العمالية في عهد لينين وغيرها.
والبنا من مؤسسي الجامعة العمالية، وحاضر في معهد الدراسات النقابية لثلاثين عاماً – في الفترة بين 1963 و1993 – وله باع طويل في النضال من أجل العمال؛ سواء في تثقيفهم أو الانتصار لحقوقهم أو تبصيرهم بما عليهم أن يفعلوه.. في سبيل تحسين قدرتهم على الإنتاج، والارتقاء بمعيشتهم الصعبة.
في هذا المضمار، استعانت به منظمة العمل الدولية في عدد من الترجمات، كما استعانت به منظمة العمل العربية كخبير استشاري. وبحكم هذه الصفات.. نظم شبكة من العلاقات بقيادات اتحادات ونقابات في كثير من الدول الإسلامية. وفي عام 1982،دعا معظمها للاجتماع في جنيف.. خلال انعقاد مؤتمر العمل الدولي بها. في هذا الاجتماع تأسس «الاتحاد الإسلامي الدولي للعمل»؛من مندوبى اتحادات عمالية في الأردن والمغرب وباكستان والسودان وبنجلاديش. وصارت للاتحاد مكتبان، في جنيف والرباط.
قبل هذا، كان البنا معنيًّا بتجديد الرؤية؛ إذ صدر له كتاب عام 1946.. بعنوان «ديمقراطية جديدة»،حوى فصلاً بعنوان «فهم جديد للدين»..يمثل بذرة تصوره حول التصور الإسلامي، وصدر الكتاب باسم «أحمد جمال الدين»؛ فالكاتب المتمرد أراد وقتها، ألا يعيش في جلباب أخيه حسن البنا الذي ذاع صيته، ولاسيما أنه كان يختلف معه، ويجادله، ويرفض الانضمام لجماعته.
قاد النقاش الحر – الذي كنت قد أدرته مع جمال البنا، حول ما يطرحه من أفكار – إلى أن يرشحني لأدير حواراً تلفزيونياً معه.. على قناة «دريم»،حول مساره الحياتي، ومضمون كتبه، حين طلب منه صاحبها رجل الأعمال الدكتور أحمد بهجت أن يقترح عليه مَن يحاوره.
قبلت العرض.. لسبب لم أكشف عنه من قبل، واعتبرته وقتها «إشارة»، وأنا أؤمن بالإشارات. فذات يوم كنت أجلس منفرداً في البيت، بعد أن ذهبت زوجتي لزيارة إحدى خالاتها، واصطحبت معها ابنتيَّ وابني. أمسكت بريموت التلفاز.. وقلبت باحثاً عما أشاهده، فتراءى لي برنامج على قناة «دريم»،يقدمه أحد الصحفيين، فجلست أنصت إليه، وقلت لنفسي: هذا صار مقدم برامج، لأنه قادر على أن يُقحم نفسه لدى السلطة أو أصحاب المال والأعمال، وهو ما لا أقدر عليه، ولا أفكر فيه، ولا أريده، ولا أعرف سبيلاً للوصول إلى قناة ذائعة الصيت، في وقت أفهم فيه أن إطلالة واحدة.. ربما تحقق تأثيراً في الناس، لا تحققه كتبي ورواياتي؛ رغم إيماني بأنها الأبقى، والأرسخ تأثيراً، إن اطّلع عليها مَن لهم كلمة فيمَن حولهم.
وبينما أنا غارق في خواطري هذه، رن الهاتف الأرضي، رفعت السماعة.. فجاءني صوت جمال البنا يقول: كلمني الدكتور أحمد بهجت، لأظهر في برنامج أشرح فيه كتبي – خصوصاً «نحو فقه جديد» – على أن يحاورني فيها أحد.. يعرف أفكارنا (هكذا كان يتحدث عن نفسه بضمير نحن)،ورشحتك لهذا الدور، لأنك قرأت كثيراً من كتبي، فهل تقبل؟
غلبتني الإشارة وقتها، وأجبته على الفور: لا مانع لديَّ، على الرحب والسعة.
قال بصوت متحشرج: أمدني برقم هاتفك المحمول، لأعطيه للدكتور بهجت، فهو يريد أن يكلمك.
أمليت عليه الرقم، ولم تمر سوى عشر دقائق، ورن هاتفي برقم مميز، أتذكر أن أغلبه كان الرقم (1)، توقعت أنه الدكتور بهجت، وكان هو بالفعل، يحدثني بمحبة وتواضع، ويبلغني أن البنا قد قال في حقي الكثير، وأنني اختيار موفق.
(نُكمل الأسبوع المقبل)
نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة