سمير مرقص
(1)
قلبٌ مليء بالحكايات
نواصل الحديث عن «مشربية حياة» الكاتب والصحفي والصيدلي والفنان المصري-الأرميني الصديق «توماس جورجيسيان». تلك المشربية التي يطل فيها توماس على سيرة حياته: متذكراً وساردا للكثير من الحكايات التي «امتلأ بها قلبه» حول الأماكن، والناس والحياة. حرص «توماس» على حكيها، لأن الحكي لديه.. هو «العمر الذي عاشه»، و«المشاوير التي مشاها». حكي يمنح هذا العمر- كما يخلص توماس – «معنى وقيمة لكل لحظة عاشها، ولكل حلم نسجه بخياله ولكل ذكرى رددها على مسامعه وعلى مسامع الآخرين»؛ إذ «مشى توماس في شوارع وأزقة كثيرة، عازفاً أدوات موسيقية مختلفة..
هكذا كانت حياته، وهكذا أيضاً لقاءاته وصداقاته ورحلاته.. وبالطبع كتاباته. هكذا كانت ومازالت.. والحمد لله. إن حدوتة حياة توماس، أمد الله في عمره، هي مجموعة حكايات في العشق لإنسان «أرميني، وُلد وعاش في مصر، ثم انتقل هذا المصري الأرمني إلى أمريكا.. ليعيش فيها ومعه هذا الإرث الأرمني المصري المتميز. وأيضاً ليكتشف هناك أبعاداً جديدة في إرثه الإنساني الثري. مضيفاً إليه ما يمكن إضافته وتسبيكه.. بما هو أمريكي، أو بما اختاره مما كان أمريكياً، أو كان إنسانياً التقاه هناك في أمريكا وتفاعل معه».
(2)
الخلطة السحرية الثرية
يقدم لنا توماس – عبر مشربية حياته – «الخلطة» أو «العجينة» التي شكلت شخصيته. وفي هذا المقام، يعود بنا إلى دور أمه؛ «الخواجاية» أحياناً، و«الحاجة» أحياناً أخرى.. حسب جيرانها في شبرا، حيث وُلد ونشأ توماس. فهي – يقول توماس – «الحاضرة بقوة وعمق في حياته، وفي حكاياته وذكرياته وفي أحلامه أيضاً». فبفضلها «تعلم الأرمنية بوصفها أسلوب حياة وثقافة، ودفقة حياة وإرادة بقاء» من جهة. وعاش المصرية بالتزام «مشاطرة» كل من حوله.. السراء والضراء والأفراح والأتراح من جهة أخرى. فقد كانت بالنسبة له «الإرادة والعزيمة والإصرار على إنجاز المطلوب، وعدم الاستسلام لليأس وقلة الحيلة». ومنها تشرَّب «فن الحكي»، إذ كانت «نبع للسرد الآسر والحكاية المتنوعة».
في المقابل، كان والد توماس نموذجاً «للصمت المهيب»، و«الأمان»، و«دروس الحياة والنصائح في معرفة البشر». حافظ توماس – على مدى حياته – على هذه الخلطة السحرية الثرية، التي شكل عجينتها كل من الأم والأب. تلك الخلطة التي توازن بين عناصرها، بما يحقق الانسجام في حياة من يتشكل بها؛ هكذا عاش توماس.. عاشقاً لأرمينيته ومصريته في ذات الوقت.
ويبدو أن حكايات توماس – التي دأب على حكيها – في ضوء الخلطة السحرية، «لروحه: هوكيس بالأرمينية» ابنته «مارجريت صوفيا: لؤلؤة الحكمة» (حسب اسمها الثنائي) – التي وُلدت في أمريكا نهاية التسعينيات – قد ساهمت في تشكيل «مارجريت» بنفس الخلطة السحرية، فنجدها في طفولتها، ورداً على دعوة والديها التزام الهدوء ترد: بإنجليزية حاسمة «لن أهدأ ولن أسكت»، ثم قالت الله (باللغة العربية). لذا لم يكن مستغرباً أن تختار كورسات إضافية في الجامعة، دون توجيه من أحد. «تدرس الحضارة المصرية القديمة، والتاريخ الأرمني».. بجانب دراستها الأساسية «لعلوم الكمبيوتر». إضافة لحبها للطبيخ ولرعاية النباتات، واختيارها أن تكون ناشطة سياسية واجتماعية لا تأبه بنقد أمريكا، خاصة في تعاملها مع شعوب العالم وقضاياها. وهو ما وصفه توماس في مشربية حياته بـ «الخلطة الأمريكية الأرمنية المصرية العصرية».
إنها خلطة ثرية.. بتجارب وثقافات وأبجديات وأنغام ومطابخ وأمثال الشعوب. وعن ذلك يقول توماس: «هكذا تشكلت عجينة حياتي، وتجمَّع موزاييك فهمي، وتشابكت خيوط سجادة معرفتي، وإدراكي للعالم من حولي.. بشراً، أم حجراً، أم موقعاً، أم أجواء إلهام، أم ظروف معايشة، أم آفاق إبداع وكتابة». إنها الخلطة التي تشكلت في القاهرة، واختبرها فيها منفرداً في البداية، ثم شاركته فيها ليز زوجته الأمريكية – التي عاشت ثماني سنوات في مصر.. حيث التقيا وتزوجا في عام 1987 – في هذه الخلطة، لتتفاعل معها وتشاطر معه الحلوة والمرة منها. «ثم جاءت مارجريت ابنتنا.. لتعيش وتتربى في هذه الأجواء؛ من التنوع الثري والاختيار الإنساني الغني».
(3)
مشاوير في التصالح مع الأمكنة والناس والحياة
من مشاوير الهوية والجذور والاختيار الوجودي والمصيري للتنوع، يأخذنا توماس معه في مشاوير أخرى للأمكنة: من القاهرة إلى واشنطن وأرمينيا، فمشاوير الكتابة والصحافة والثقافة.. بصحبة رموزها، وكيف تعلم منهم.. مروراً بمشوار مهنة الصيدلة. وعبر تلك المشاوير يقدم توماس خلاصة – بكل العشق – حول الكيفية التي اكتشف فيها حبه للكتابة، والعلاقة بين الكيمياء التي درسها والكتابة. إذ تعلم من الكيمياء.. «أن الكلام المكتوب – أو الذي أريد أن أكتبه – مثل تركيبة الدواء. فالجرعة الفعَّالة يجب أن تكون محددة – ومحدودة – بدقة.. بحيث تكون علاجاً، وليس مادة مُضرة أو قاتلة.. إن زادت عن الجُرعة المطلوبة. أو تكون مادة ليس لها تأثير فعّال.. إن نقصت عن الجرعة المطلوبة من المادة العلاجية. كما يقدم خلاصة مشوار «العمل الشاق والشائق».. كمراسل صحفي ومحلل من واشنطن (عاصمة القرار الأمريكي) على مدى ثلاثين عاماً. «فمرور السنوات لا يعني كثيرا، إن كنت لا تتحرك إلا في مكانك فقط.. فالعالم يتطور ويتجدد ويتغير من حولك.. وتحديداً في أمريكا وفي واشنطن. الأمر الذي يتطلب الاجتهاد بلا كلل وتطوير الأدوات المهنية…».
وأخيراً يقدم لنا مشاويره في: أولاً: طرقات الصحافة، قصر العيني، حيث صباح الخير معشوقته الأثيرة، والجلاء حيث الأهرام. وثانياً: أروقة جيل الكبار من الكتاب والفنانين: توفيق الحكيم، وحسين فوزي، ويحيى حقي، ومصطفى أمين، ونجيب محفوظ، وإحسان عبدالقدوس، وأحمد بهاء الدين، ويوسف عز الدين عيسى، وكمال الملاخ، ولويس جريس، وعلاء الديب، وصلاح جاهين، وبيكار، ويوسف فرنسيس، وإيهاب شاكر، حيث كان له مع كل واحد منهم.. جلسات مطولة من الحوارات في شتى مناحي الحياة الإنسانية.
وبعد.. مشوار توماس هو مشوار «الألفة والصدق والبهجة باكتشاف الحياة»، إذ لم يكن لديه وقت للشكوى.
نقلاً عن «المصري اليوم«