Times of Egypt

عبدالناصر.. الحاضر!

M.Adam

عمر إسماعيل*
أكتب هذه السطور.. انطلاقًا من رؤية شخصية، تشكّلت على مدى سنوات من التفاعل العميق، مع فكر وتجربة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. فقد نشأت في ظل بيئة سياسية.. اتسمت بطابع اشتراكي، وكان لتلك المرحلة دور محوري في تشكيل وعيي السياسي المبكر؛ المستند إلى مبادئ العدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني، والانحياز للفئات الشعبية. وهي المبادئ التي ظللت متمسكًا بها، رغم انتقالي للعيش في بلد المهجر.
ولأن الإنصاف التاريخي.. يقتضي تسليط الضوء على الأدوار المحورية، التي لعبها عبد الناصر؛ سواء في سياق تحرير الإرادة المصرية، أو في إطار بلورة الهوية القومية العربية، وما تركه من تأثير بالغ في مجريات السياسة الإقليمية والدولية، تأتي هذه المقدمة.. لا تمجيدًا لشخص، بل توثيقًا لتجربة، واعترافًا بأثرٍ ما زال حاضرًا في وجدان أجيال كاملة، ومن بينها جيلي.
عبد الناصر: الاسم الذي لا يُمحى حتى وإن أزيل من اللافتات
في السياسة – كما في التاريخ – ليست المسألة مجرد أسماء.. تُعلَّق على المباني، أو تُرسم على الواجهات واللافتات؛ فالأسماء – حين ترتبط بفكرة، او بمشروع، او بتاريخ من الكفاح والدموع والأمال – تصبح أكثر من حروف.. تصبح ذاكرة وطن. واسم جمال عبد الناصر – تحديدًا – لم يعد حكرًا على شارع، أو ميدان، أو مبني، أو أكاديمية عسكرية تُقرّر السلطات أن تُزيله من فوق بوابتها. عبد الناصر – سواء اتفقت معه او خالفته – تجاوز حدود اللافتة منذ زمن بعيد، ليصبح جزأ لا يتجزأ من تاريخ مصر الحديث.
كان يمكن الفهم.. أن يعاد النظر في رموز التاريخ، لو أن الغاية هي إعادة التقييم الموضوعي، أو فتح أبواب الحوار الحر.. حول اللحظات المهمة في تاريخ الدولة المصرية الحديثة. لكن ما يحدث اليوم لا يُفسَّر هكذا. ما يحدث.. هو أشبه بمحاولة انتقام؛ حملة متواصلة منذ نصف قرن، تتوارثها أجيال من الخصوم، الذين لا يغفرون لعبد الناصر مشروعه الوطني، ولا يُطيقون ذكراه، لأنه لا يزال – رغم رحيله – ينافسهم في وجدان الشعب.
محمد حسنين هيكل – الذي عاش وعاصر عهد عبد الناصر – مع عديد من مشاهير المثقفين والكتاب الصحفيين، عاشوا سنوات المشروع والقلق والحصار والحلم. هيكل.. لم يكن يروّج لصورة زعيم معصوم، بل لإنسان من لحم ودم، يتقدم الصفوف.. لا لأنه الأفضل، بل لأنه الأجرأ. كتب ذات مرة: «التكريم الحقيقي لعبد الناصر، ليس أن يُقدَّس، بل إنه يظل بيننا.. إنسانًا، بفكره، بقراراته الصائبة وأخطائه، لأنه كان يعكس أحلام أمة لا فرداً».
فلماذا هذا الإصرار إذن.. على محو الاسم؟ لماذا هذا الإلحاح على اجتثاث الاسم من لافتات الاحياء والمباني والمؤسسات.. التي بنيت في عصره، بينما هو لا يزال ثابتًا في وجدان ملايين المصريين والعرب؟ لماذا تُحارب الذاكرة.. إن لم تكن لا تزال حيّة، إن لم يكن شبح عبد الناصر – كما وصفه هيكل – ما زال يلاحق الضمائر؟
عبد الله السناوي في مقال أخير له، أشار بدقة إلى أن إزالة اسم عبد الناصر من الأكاديمية العسكرية، لم يكن ضرورة إدارية، بل خطوة سياسية.. في المقام الاول. فهذه المؤسسة ليست مبنى عاديًا، بل رمز من رموز دولة يوليو. وإزالة الاسم منها، ليست محض صدفة، ولا واقعة فردية. إنها جزء من مناخ يعيد كتابة التاريخ بأثر رجعي، لا ليُنصف الحاضر، بل ليُخفي ما لا يُحتمل تذكّره.
قد يكون ما يُقلقهم.. ليس عبد الناصر الرجل، الذي رحل قبل 55 عامًا، بل عبد الناصر الرمز، المشروع، القدرة المستمرة على بث الحنين.. على إحياء القضايا الكبرى: العدالة الاجتماعية، الاستقلال الوطني، كرامة المواطن، ومجانية التعليم.. كحق، وليست منّة.
أرادوا طمس عبد الناصر بعد الهزيمة في 1967، لكنه خرج إلى الجماهير في 9 يونيو، فاحتشدت له الملايين. أرادوا محوه بعد رحيله، فبقي اسمه على لسان البسطاء. حاولوا تحميله أوزار كل ما تلا غيابه، فازدادت صورته إشراقًا.. بالمقارنة.
كتب هيكل: «إن ما جرى بعد ناصر لم يكن نقدًا له، بل تصفية لمشروعه». وهذا المشروع – على كل ما فيه من تناقضات – لم يكن سوى محاولة لبناء دولة وطنية ذات سيادة، دولة تتحدث باسم شعبها.. لا بالنيابة عن مصالح خارجية. والذين يشنّون عليه حملاتهم.. حتى الآن، إنما يعادونه.. لأنه لم يكن رجل توازنات، بل رجل اختيارات.. حادة وواضحة.
لقد خاض معاركه مع الداخل والخارج. أخطأ حين وثق أكثر مما يجب، وتجاوز أحيانًا في مركزية القرار. لكنه – كما أشار هيكل – لم يكن يبحث عن مجد شخصي، بل عن «مكان تحت الشمس».. لمصر، في عالم يتوزع بين الكبار.
الذين يسعون اليوم إلى نزع اسمه من المؤسسات، لا يدركون أن المعركة ليست مع اللافتة، بل مع المعنى. وكم من اسم أُزيل من جدران.. وبقي محفورًا في القلوب! فالكرامة لا تُمحى بقرار، والعدالة لا تُلغى بتوقيع، والتاريخ لا يُكتب من جديد.. بيد مَن يخشون الماضي.
يبقى عبد الناصر في الذاكرة الحيّة. لا لأنه كان معصومًا، بل لأنه كان من الشعب.
أخطأ، نعم، لكنه كان يحلم. وكان صوته – يوم ارتفع – يشبه صوت هذا الوطن.. حين كان شابًا واثقًا بنفسه، طامحًا في مكانة بين الأمم.
والسؤال الأهم الآن.. ليس: لماذا يزيلون اسمه؟ بل: لماذا لا يزال اسمه ثقيلًا عليهم.. إلى هذا الحد.. بعد كل هذا الزمن؟
وفي النهاية، سيظل الزعيم.. زعيما.

*قيادي في حزب العمال البريطاني

شارك هذه المقالة