محمد أبو الغار..
اختار تشرشل القاهرة ليعقد مؤتمره – بالرغم من نصيحة أللنبي المندوب السامي في مصر – أنه «شخصية غير محبوبة في مصر». حضر المؤتمر 32 شخصية بريطانية سياسية وعسكرية ومخابراتية، واثنان فقط من العراق. وبدأ تشرشل ينظم الأفكار مع لورنس – ضابط المخابرات البريطاني – وقال: دعنا ننسَ فرنسا، ويكفي أن لها سوريا ولبنان، واتفق تشرشل – بعد ترشيح لورنس – على أن يكون الأمير فيصل (ابن الشريف حسين أمير الحجاز) ملكاً على العراق، وأن يكون الأمير عبدالله أخو فيصل ملكاً على شرق الأردن.. بالرغم من عدم كفاءته.
وحاول حاييم وايزمان إقناعهم بترك الأردن.. لتكون جزءاً من فلسطين، ولكن تشرشل رفض. وناقش المؤتمر وعد بلفور.. بإقامة وطن قومي لليهود فى فلسطين. وقرر استكمال المناقشة في القدس بعد انتهاء مؤتمر القاهرة.
غادر تشرشل لندن إلى مارسيليا بالقطار، وقابل زوجته هناك، وسافرا بالباخرة سفنكس الفرنسية إلى الإسكندرية، وقبل السفر زار أمه – التي كانت قد تزوجت حديثاً للمرة الثالثة – وسافر معه حارس شخصي وضابط مخابرات، وفي الإسكندرية استقبلته لافتات وهتافات المصريين.. التي لا ترحب به، وطلب زيارة أبوقير ليشاهد المكان الذي انتصر فيه الأدميرال البريطاني نلسن.. على الأسطول الفرنسي، وبقي نابليون محاصراً في مصر. ثم ركب قطاراً خاصاً أرسله السلطان فؤاد له، وطوال الرحلة كان الفلاحون يلقون الطوب على القطار، ولما عرف الإنجليز بتجمهر عدد كبير في محطة مصر في انتظار تشرشل، توقف القطار في محطة شبرا، ونزل تشرشل وزملاؤه وركبوا سيارات إلى فندق سميراميس أمام كوبري قصر النيل.
وصل لورنس القاهرة في نفس اليوم، وكان يُعد لكتابه الأشهر «أعمدة الحكمة السابعة».
قابل تشرشل كبار المسؤولين الإنجليز في الشرق الأوسط، وحضر احتفالاً في حديقة المندوب السامي المطلة على النيل.
حضر المؤتمر – مع تشرشل ولورنس – كبار المختصين في وزارة المستعمرات، ووزيران عراقيان؛ جعفر السكري وزير الدفاع، وساسون إسكل وزير المالية اليهودي العراقي، (كان من 80 ألف يهودي يعيشون في بغداد حينئذ، ويُكونون نصف عدد سكان العاصمة). قسم تشرشل الأعضاء إلى: لجنة سياسية، ولجنة عسكرية. ونُوقشت الشؤون المالية في اللجنتين. قررت اللجنة اختيار الأمير فيصل ملكاً على العراق، وأيَّد الاختيار الوزيران العراقيان.
ثم نُوقشت مشكلة 5 ملايين كردى.. يسكنون الجبال شمال العراق، وكان مؤتمر الصلح في باريس قد أوصى بإقامة دولة كردستان، ولكن أتاتورك والجيش التركي منع ذلك.
وتم اختيار عبدالله أخو فيصل ملكاً على شرق الأردن.
أقام المندوب السامي حفلاً لجميع أعضاء المؤتمر، وحضر حاكم الصومال البريطاني.. ومعه أسدان في الحديقة لإرسالهما لحديقة حيوان لندن.
الصورة الذهنية عند العرب، أن لورنس.. مغامر وجاسوس استعماري، ولكن هذا الكتاب أظهر أن لورنس كان محباً للعرب – وبالذات للعائلة الهاشمية، ومدافعاً عنها – وقال إما أن يكون المؤتمر عادلاً للعرب أو سوف أستقيل.
وبالنسبة لفلسطين اختلفت الرؤى، كانت السيدة (جيرترود) بل، وهي المرأة الوحيدة في المؤتمر، تعتقد أن تنفيذ وعد بلفور.. سوف يؤدي إلى كوارث على العرب. وكان تشرشل يترك المؤتمر ساعات طويلة.. ليتجول في القاهرة وضواحيها، ومعه أدوات الرسم كاملة، وقام بعمل عدد من اللوحات عن القاهرة وزار القلعة، ومنها زار مدينة الموتى – وهي المدافن الإسلامية في القاهرة المملوكية – والتي اعتبرها تشرشل – في عام 1921 – أثراً إنسانياً هاماً ومبهراً، ولكن للأسف تمت إزالتها حديثاً لإنشاء كوبري.
وأثناء إقامة تشرشل، أقيمت مآدب عشاء فاخرة بصفة مستمرة لأعضاء المؤتمر وكبار الرسميين الإنجليز، منها عشاء كبير في منزل المندوب السامي البريطاني، وبعد أن زار المندوب السامي مع تشرشل السلطان فؤاد دعاهم فؤاد على حفل عشاء كبير، وكان رأي تشرشل إيجابياً في السلطان فؤاد، ولكن أللنبي قال له: «إنه شخصية سيئة، ويكره الدستور والبرلمان. ويعوق أي تقدم نحو الهدوء في مصر». وقامت المجموعة برحلة إلى أهرامات الجيزة، ومن الأهرامات ركبوا الجمال في الصحراء واتجهوا إلى هرم سقارة ومنطقة آثار سقارة وممفيس، وشاهدوا في يوم كامل جميع آثار المنطقة، ووقع حادث لتشرشل إذ سقط من على الجمل ولكن لم يحدث له شيء.
وفي نهاية المؤتمر، بقيت مشكلة فلسطين المعقدة.. التي اختلفت فيها الآراء، فاتفقوا أن يؤجلوا القرار في مشكلة فلسطين إلى الأسبوع التالي، حيث سوف يكتمل المؤتمر في القدس، وبقيت بعض المشاكل، حيث أصر كل من أللنبي، المندوب السامي في مصر، والسير هريت صمويل، حاكم فلسطين، على أن «وجود الجيش البريطاني في مصر وفلسطين مهم ومستمر وسيكون خطأ قاتلاً لو تم الجلاء عنهما»، ووافق المؤتمر على إنشاء جيش عراقي من 5 آلاف فرد، لأن ذلك سوف يساعد على خفض عدد وتكاليف وجود الجيش البريطاني في المنطقة، ثم ناقشوا مشكلة وجود 14 ألف أرمني كانوا يقيمون في البصرة، أضيف إليهم آلاف من المذبحة التي قامت بها تركيا، واتفق المؤتمر على أن يتم ترحيلهم إلى شاطئ البحر الأسود.
واتفق المؤتمر على أن تدفع بريطانيا مرتبات سنوية لبعض الشخصيات لضمان الحفاظ على ما اتفق عليه وعلى الأمن فى المنطقة. وتقاضى الشريف حسين أمير الحجاز مبلغاً.. مقابل عمله لسنوات بإخلاص مع بريطانيا. وتم دفع 12 ألف جنيه إسترليني إلى فهد بك، وهو بدوي بلطجي يتحكم في منطقة صحراوية ترغب بريطانيا في اتخاذها قاعدة للسلاح الجوي. و12 ألف جنيه إلى محمد الإدريسي، أمير عسير، التي أصبحت جزءاً من السعودية بعد ذلك.
كان أللنبي المندوب السامي سعيداً بأن القاهرة كانت هادئة نسبياً أثناء المؤتمر، وأنه كانت هناك مظاهرة طلابية واحدة نادت بسقوط تشرشل ووصفهم أللنبي بقلة الأدب. وسافر تشرشل بقطار خاص من القاهرة إلى القدس مع مجموعة صغيرة منهم لورنس، وسافر الباقي بقطار آخر. طلب تشرشل التوقف في محطة غزة وتجول في المدينة التي كانت آثار الدمار بها من الحرب بين بريطانيا والدولة العثمانية ما زالت موجودة، وكان عدد السكان 15 ألف مواطن خرجوا لتحية تشرشل الذي كان سعيداً بها، وقال إنهم يفهمون أكثر من المصريين المقيمين في الإسكندرية، الذين شتموه. وانطلق القطار إلى القدس، حيث استكمل الاجتماع في الجزء الخاص بفلسطين ومستقبلها، وكلنا نعلم ما حدث وما زال يحدث.
كانت بريطانيا تتحكم في تغيير التاريخ والجغرافيا، وأسماء الملوك والحكومات، والآن أمريكا تحاول أن تقوم بنفس الدور، ولكن بطريقة أخرى.. وفي ظروف أخرى أكثر تعقيداً.
(قوم يا مصري.. مصر دايماً بتناديك)
نقلاً عن «المصري اليوم»