Times of Egypt

عن هوية مصر في سياقها التاريخي «2» 

M.Adam
د. أحمد زكريا الشلق 

د. أحمد زكريا الشلق 

لعلنا نلاحظ أن النقاش حول هوية مصر/شخصية مصر، عادة ما يثور التساؤل بشأنها في فترات التحول أو الأزمات من تاريخها. وهو ما يستوجب أو يقتضي طرح السؤال «ماذا حدث لنا؟ ومن نحن؟.. على ساحة الفكر والثقافة». وغالباً ما يتم ذلك.. عند مواجهة الوطن تحديات مرحلة جديدة من التاريخ يُوَد فيها استشراف المستقبل، وهو ما يدعو إلى البدء بالتفكير في الماضي. ففي عام 1936 – مثلاً – حصلت مصر على قدر من الاستقلال، ورأى المفكرون والمثقفون.. أنها على أعتاب مرحلة جديدة من تاريخها، فوضع الدكتور طه حسين (1889 – 1973) كتابه الشهير «مستقبل الثقافة في مصر» عام 1938؛ الذي بدأه بالتساؤل عن هوية مصر التاريخية، وإلى أين تتجه بثقافتها. ورأى أنها جزء من عالم البحر المتوسط وحضارته الأوروبية، ومن ثم يجب أن تأخذ بها.. باعتبارها ثقافة إنسانية، أسهم العرب في تكوينها في قرون مضت.  

وتساءل الدكتور حسين مؤنس (1911 – 1996) – في بداية الخمسينيات من القرن الماضي – عن هوية مصر.. وهي مقبلة على مرحلة جديدة من التحولات، التي قامت بها ثورة يوليو 1952؛ فقدَّم إسهامه في كتابه «مصر ورسالتها» عام 1955، ليصور لمصر دورها ورسالتها استناداً إلى هويتها التاريخية. وفي نفس الفترة وظروفها تقريباً قدَّم الدكتور حسين فوزي (1900-1988) كتابه «سندباد مصري» الذي كتب فصوله بين عامي 1954 و1959، فاستعار قناع السندباد – الذي أُغرم به – وقدَّم سياحة تاريخية لمصر وإنسانها عبر العصور؛ مصوراً قهره واستعباده واستبعاده، وجَلَدِه وصبرِه.. ليظل جوهر مصر الإنسانى حياً مستمراً.  

وحين تعرضت مصر لمحنة العدوان الثلاثي عام 1956 وخرجت منها منتصرة ودُحر العدوان، قدَّم محمد شفيق غربال (1894-1961) سلسلة من أحاديثه في الإذاعة البريطانية، تلك الأحاديث التي جُمعت (وترجمها صديقه الأستاذ محمد رفعت) ونشرها غربال في كتابه «تكوين مصر» (1957) حين خاطب فيها الإنجليز، ومن يتحدثون لغتهم، بأن مصر كانت موجودة عبر العصور والحقب، وأنها استعصت على الضياع والتفتيت، بجهودها، وإنسانها، وأنها ستظل من الأزل إلى الأبد، فقد ولدت الحضارة واستوعبت من حضارة الأغيار ما أرادت، ولم تختفٍ وبقيت بشعبها كالطود والنيل، بصحراواتها وبحارها، وأنها قد تنكسر حيناً أمام غزاتها، لكنها لا تفنى فيهم، وإنما تخلعهم في نهاية المطاف، لتظل مصر مصرية.  

وعندما اتجه الرئيس السادات إلى الصلح مع إسرائيل.. في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وقاطعته الأنظمة العربية، وأشاح بوجهه قليلاً عن العرب والعروبة، انبرى نفر من الكُتاب يؤيدونه، وينتزعون مصر من عروبتها، وأثاروا مسألة هوية مصر من جديد في حوارات مشهورة حول «عروبة مصر». وعندما تصالح السادات مع التيارات الإسلامية، وأعادها إلى ساحة الفكر والثقافة، انطلق نشاطها السياسي والفكري.. متجاهلاً أن مصر كانت لها هوية وشخصية ووجود قبل الفتح الإسلامي! 

وسوف نلاحظ فيمن كتبوا – عن هوية مصر وشخصيتها.. بشكل مباشر – أن فريقاً منهم يركز على هذا الجانب أو ذاك من مقومات هويتها، ويرى أنه الغالب على طبيعة مصر وهويتها، فالكُتاب الإسلاميون احتفلوا بشكل خاص بمرحلة التاريخ الإسلامي.. كما أشرنا، وتجاهلوا المراحل السابقة عليها، مما جعل نفراً من مفكري مصر.. من الأقباط والمسلمين؛ يصوِّبون هذه النظرة القاصرة ويصححونها، بإجلاء تاريخ مصر قبل الإسلام – خاصة في المرحلة القبطية – والتركيز على أن مصر وطن الجميع، لا وطن ديانة حكامها، ولا أغلبيتها الدينية وحدها.  

والمفتونون بتفوق الحضارة الأوروبية ونهضتها واستنارتها، ويرون فيها المثال والقدوة، غضُّوا الطرف عن حضارة مصر وثقافتها الذاتية.. التي كوَّنت هويتها، وجعلوا يفتشون في تاريخنا بحثاً عن صلات الحضارة الأوروبية.. بتاريخنا القديم، بينما كان الأوروبيون يبحثون عن أصول شرقية.. لحضارتهم القديمة في بلادنا ( راجع كتاب أثينا السوداء مثلاً)! 

وهكذا اصطبغت الكتابة عن هوية مصر وشخصيتها.. بفكر وتوجهات ومنطلقات بعض من عالجوها، وتحدثوا عنها، أو قدموا رؤى وإسهامات بشأنها. فهناك من اتخذ ديانة المصريين ولغتهم عنواناً على مرحلة معينة من التاريخ – أو بالأدق على مسار الهوية عبر التاريخ – فصبغوا هويتها وكينونتها.. بما شاءت لهم أفكارهم ومعتقداتهم وتوجهاتهم. فتارة تحمل الهوية اسم دين أغلبيتها الدينية: فهي تارة مصر القبطية أو المسيحية، وتارة هي مصر الإسلامية، أو مصر العربية… إلخ. كما أن هناك من صبغ هويتها بجنسيات حكامها الأجانب وسلالاتهم: فهي مصر الهلينية، ومصر البطلمية، ومصر الرومانية، ومصر الفاطمية، ومصر المملوكية، ثم مصر العثمانية، وهلم جرا.. مع أنها دائماً وأبداً «مصر المصرية».  

ويبدو أن قضية (أو مسألة) هوية مصر – بكل تجلياتها وأصولها الاجتماعية والثقافية والتاريخية والجغرافية والفلسفية واللغوية – شغلت الكثير من الكُتاب والمثقفين.. عقب الموجة الجديدة للحركة الوطنية المصرية، التي بدأت في 25 يناير 2011، واستمرت حتى 30 يونيو 2013. وكان من نتائج ذلك أن تداعت هيئاتنا الثقافية.. إلى إعادة نشر المؤلفات التي عبَّرت عن هوية مصر وشخصيتها.. للأجيال الناهضة، كما أدلى العديد من الكُتاب والمثقفين المصريين، على اختلاف تخصصاتهم وتوجهاتهم، بدلوهم وعبَّروا عن رؤاهم بشأن هذه المسألة.  

وقد أثار ذلك تفكيري في الموضوع.. وأنا أعيد قراءة كتاب شفيق غربال «تكوين مصر»، الذي صدرت منه طبعات عديدة أخيراً، وعندما أرجعت البصر فيه وفي غيره.. لم يرتد إليَّ حسيراً. وكان واضحاً أن القضية لقيت اهتماماً واضحاً وجلياً.. من عدد من رواد الفكر والثقافة والأدب. 

نقلاً عن «الأهرام» 

شارك هذه المقالة