أحمد الجمال
هو نكد متفرد في نوعه ودرجته.. وغير مسبوق في ذاكرتنا النكدة، التي تختزن مشاهد ومواقف وتأثرات عشناها، وهي تفسد علينا بعض أعيادنا وأفراحنا وأوقات صفائنا. وقد ذهبتُ للمصادر والمراجع لأعرف المعنى اللغوي الدقيق للنكد، الذي تبينتُ أننا نستخدم اشتقاقاته عندما نريد معنى يفوق الألم والحزن والزعل والغضب؛ فوجدتُ أنه من معانيه الاشتداد والعسر.. وأنه كلُّ أمر أو شيء جرَّ على صاحبه شراً.. وهو الشحيحُ قليلُ النفع.. ونكدُ العيش كدرُه.. وجعله نكداً أي عسيراً شديداً… إلى آخر ما جاء في المعاجم.
وقد كنا، وما زلنا، إذا أردنا تمني التنكيل بشخص.. دعونا أن ينكد الله عليه عيشته.. وإذا أردنا أن نتشفع عند كبير للشفقة بصغير رجوناه ألا ينكد عليه في الأيام المفترجة. وها نحن في الأيام المفترجة.. أيام عيد الأضحى التي عشناها من الخميس الفائت حتى الثلاثاء، ولكن – عن نفسي – وأعتقد أن كثيرين نالهم ما نالني، عشنا نكداً ما له مثيل، حيث امتلأت ساعات أيامنا النكدات بالمشاهد.. التي خزقت وتخزق عيوننا فور أن نقوم من مائدة الطعام، لنركن إلى الكنبة.. لمشاهدة محطات الأخبار، وعبثاً نحاول الهرب من الأولى إلى النيل للأخبار، إلى القاهرة الإخبارية، إلى سكاي نيوز والشاهد والعربية، والعربي والحرة، والبريطانية وفرنسا 24، وغيرها – باللغتين العربية والإفرنجية – وكأنها جميعاً تعهدت عهداً وثيقاً.. بأن تكون أمينةً أو شبه أمينة في نقل مشاهد آلاف الأيادي، الممتدة بالأوعية البلاستيكية والمعدنية.. الفارغة المتداخلة المتزاحمة، التي تكاد العين والأذن ترى وتسمع أنينها، لتحصل على ملء كوز من طبيخ سائل – فيه قطع متماسكة – لا نعرف ما سيولته وماذا يعوم فيه.. ثم يتم الانتقال مباشرةً إلى نساء امتزج فيهن النكد بالحزن، والترمل بفقد الأولاد؛ وهن يرددن أنكد نبرة تعبير عما جرى ويجري ما سيجري، ويكون الختام دائماً بعبارات: الحمد لله على كل حال.. وين نروح.. ما لنا غير الله.. وتُنطق بهمزة صريحة.. «أللا» وهاء محذوفة!
نكد ما بعده ولا قبله نكد، وقد عاش من هم من جيلي وفي بيئتي الريفية.. لحظات ظنناها الأشد والأكثر عسراً؛ ومنها مثلاً ذلك الأضحى.. الذي حلَّ ومعه وباء حمى قلاعية فاتكة، ضربت ثروة العائلة من المواشي التي تسرح في الغيط.. للحرث والساقية وتعطي الدار اللبن الحليب والرائب والقشدة، ومن ثم الزبدة والسمن البلدي، وأيضاً الروث لزوم أقراص الجلة الجافة للوقود.
كنتُ في الثامنة تقريباً، وشُفت الهرولة بالسكاكين.. للحاق ثلاثة ثيران بقر وفحلين جاموس وأربع بقرات وجاموسات.. اللحاق لذبحها، قبل أن تموت فطيساً. وبدأت موجات النحيب واللطم، وذهول وجوه أبي وأعمامي وجدي، وجاء الجزارون يبكون ويعزون بالكلام والصمت، ورجال القرية طابور طويل يدفعون ثمناً رمزياً للرطل أو الأقة.. من لحم تلك المواشي!
ظللنا سنين طويلة.. نتصور أنه لا نكد أقوى من هذا الذي حدث! ثم عشتُ أيضاً النكد المتكرر المتفجر في الأعياد والمواسم، وكأنه قنبلة موقوتة.. فيها جهاز توقيت، يجعلها تنفجر عند اللحظة التي ينضج فيها الطبيخ على الكوانين وفي الأفران، وتوضع الطبالي على الحُصر النظيفة.. المفرودة في المسافة الممتدة من خلف باب الدار إلى وسط الدار.. ثلاث حُصر بثلاث طبالي، واحدة للرجال الكبار.. والثانية للنسوان.. والثالثة للعيال، بقيادة البالغين منهم. وفجأة – ودون سابق إنذار – تنفجر أول قنبلة نكد لسبب تافه، كأن ينظر أحد الكبار.. فيجد أحد العيال الصغار يشرب من القلة الفخار الحمراء المخصصة للرجال، ويرتد الماء من فم الطفل إلى حلق القلة.. ويُصر الكبير على كسر القلة على دماغ أم الواد أو البنت!
وتشتعل العركة.. وطلاقات وحلفانات «ما أنا واكل..» ويعقبها القذف بـ«المناب» أي نصيبه من اللحم والظفر إلى أقرب كلب باسط ذراعيه وراء باب الدار. بعد أن ينبهه: «كشكش.. كشكش.. تعال..»، فينهض الكلب نصف نهوض وإذا باللحم والظفر «الفراخ والبط» تصل تحت رجليه.. كان نكداً بشعاً في لحظته، ولكنه يتضاءل ويتلاشى أمام نكد مشهد أطفال ونساء ورجال غزة، وهم يتدافعون بوجوه تمكن منها الأسى والألم والحزن.. حتى صارت معجونةً ومطليةً بالنكد الأزلي غير المتكرر.
أزعم أنني لم أهنأ بوجبة واحدة.. وكثيراً ما كدتُ أفرغ ما وصل جوفي، وأنا أشاهد ما يحدث هناك.. ولا تمل حكاية الثيران.. التي أُكلت كلها، يوم أُكل أولها.. من مداهمة تفكيري؛ لأن المنطقة التي أعيش فيها، تدخل ضمن نطاق من نهر مصر إلى النهر الكبير.. الفرات!. والباقي لا يحتاج لتفصيل أو شرح!
نقلاً عن «المصري اليوم»