نيفين مسعد..
مع تصاعُد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والعديد من دول العالم، ينهار أمام أعيننا أهم عناصر ظاهرة العولمةP ألا وهو حرية التجارة العالمية. وكان الحديث عن ظاهرة العولمة قد أخذ يتصاعد.. اعتباراً من نهاية ثمانينيات القرن الماضي؛ تحت تأثير عاملين أساسيين.العامل الأول: هو تفكُّك الدول المنضوية في إطار الكتلة الشيوعية، والعامل الثاني:هو التطوُّر الكبير في تكنولوجيا المعلومات.
من جهة، أدَّى تفكُّك الكتلة الشيوعية وانتهاء الحرب الباردة.. إلى الاتجاه رويداً رويداً نحو حرية السوق، وتشجيع الاقتصاد التنافسي. ومثَّل الإعلان رسمياً عن قيام منظمة التجارة العالمية في يناير 1995، ثم انضمام الصين إلى هذه المنظمة – بعد عدَّة سنوات – تجسيداً واضحاً لفكرة السوق المفتوحة. وترافق ذلك مع الاتجاه نحو إقامة المناطق التجارية الحرة بين الدول، وتكوين التكتلات الاقتصادية الكبيرة.. وانفتاحها على بعضها البعض؛ من باب أن الاقتصادات الوطنية لم تعد قادرة على المنافسة العالمية.. بشكل أحادي.
ومن جهة أخرى، ساعد استخدام تكنولوجيا المعلومات في البنية التحتية للاتصالات.. على فتح مجالات جديدة للتبادل التجاري، منها – على سبيل المثال – مجال التجارة الإلكترونية. ثم أتى التطوُّر الكبير في وسائل التواصل الاجتماعي.. لتوسيع الخيارات أمام المستهلكين، وتيسير وصولهم إلى تفضيلاتهم التجارية.. من دون أن يبرحوا أماكنهم.
أما الآن، فإنَّ السياسة الحمائية – التي يتبنَّاها الرئيس الأمريكي – تعيدنا إلى تطبيقات النظرية الماركنتيلية.. في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وهي النظرية التي كانت تؤمن بالمركزية الاقتصادية، والتدخُّل الحكومي للدفاع عن رفاهية الدولة القومية. لكن ما كان يناسب العالم في تلك المرحلة التاريخية، لم يعُد يناسبه حالياً؛ حيث يسود مبدأ الاعتماد المتبادل بين الدول، وتتشارك عدَّة دول في إنتاج السلعة الواحدة. وبالتالي، فليس من المؤكَّد أن تقود الحماية المفرطة للصناعات المحلية.. إلى رفاهية المستهلك – كما يتصوَّر ترامب – بل من الأرجح أن تقود إلى موجة من التضخم والركود والبطالة.
وقبل أن ينهار مبدأ حرية التجارة العالمية.. كركيزة أساسية للعولمة، كان قد انهار مبدأ الحدود المفتوحة بين الدول، وتبدَّدت معه فكرة أن العالم كله.. بمثابة قرية واحدة. حدث هذا الانهيار مع تدفُّق موجات المهاجرين من دول الصراعات الداخلية العربية.. اعتباراً من عام 2011، الأمر الذي وفَّر بيئة مناسبة لصعود تيار اليمين المتطرف.. في العديد من الدول الأوروبية، فقد اشتغل هذا التيار على استنفار المشاعر القومية.. في مواجهة خطر المهاجرين، الذي يتمثَّل في تهديد التركيبة الديموغرافية للقارة الأوروبية، وتغيير منظومتها الثقافية، فضلاً عن مخاطر الهجمات الإرهابية.
وبينما تزايدت مظاهر الكراهية – التي استهدفت المهاجرين في السنوات القليلة الماضية – أتت انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو 2024، لتشهد سيطرة اليمين المتطرِّف على معظم مقاعده. ومن بين الدول التي حقق فيها هذا التيار تقدُّماً واضحاً: فرنسا وإيطاليا والمجر وهولندا. وأصبح الموقف من قضية الهجرة موضوعاً أساسياً.. في البرامج الانتخابية لسائر الأحزاب السياسية الأوروبية، على مستوى البرلمانات القُطرية. وشهدت المنظومة القانونية للدول الأوروبية.. عدداً من التغييرات في اتجاه تشديد الرقابة على الهجرة عمومًا، وعلى الهجرة غير الشرعية بشكل خاص.. مع التضييق الكبير على طلبات اللجوء السياسي. وهكذا صرنا أمام نوع من المفارقة العجيبة.. ما بين التطوُّر التكنولوجي المذهل؛ الذي يسمح للبشر بالتلاقي الافتراضي والتفاعل عن بُعد، وبين الاحتراز القانوني والسياسي.. الذي يقيِّد تنقُّلات البشر عبر الحدود!
ثم أتت حرب غزة.. لتكون التعبير الأوضح عن انهيار الركيزة الثالثة من ركائز العولمة؛ ألا وهي قيم الليبرالية والديموقراطية وحقوق الإنسان. وكانت الموجة الثالثة للديموقراطية – التي تحدَّث عنها الكاتب الأمريكي صامويل هنتنغتون، وشملت نحو 60 دولة في أوروبا وأمريكا اللاتينية، وأخذت في التوسُّع.. اعتبارًا من منتصف سبعينيات القرن الماضي تقريبًا – قد أدَّت إلى الاعتقاد بأنَّ هناك توجُّهًا عالميًا.. لإعلاء قيم الليبرالية والديموقراطية وحقوق الإنسان، وذلك إلى الحدِّ الذي راج معه الحديث عن المواطن العالمي، في إشارة إلى تشارُك العالَم في القيم نفسِها.
لكن حرب غزَّة كشفَت عن ازدواجية المعايير الدولية.. أكثر من أي وقت مضى؛ بدءاً من الصمت على سياسة القتل المُمنهج للمدنيين، والتدمير الإسرائيلي الكامل لقطاع غزة، وتكميم أفواه الرافضين لتلك السياسة، ومطاردتهم ومحاكمتهم. مروراً بالاستخفاف بمؤسسات العدالة الدولية (محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية)،والتهديد بفرض عقوبات عليها.. بدعوى معاداتها للسامية. وصولًا إلى خطة ترامب لتهجير أهل غزة، والاستيلاء على أرضهم، وتحويلها إلى منطقة حرّة.. و«ريفييرا» الشرق الأوسط. وبمثل هذه المعايير المزدوجة.. نعود إلى الحقبة الاستعمارية، واحتلال أراضي الغير بالقوة.. بالتوازي مع عودتنا – من خلال الحماية التجارية – إلى عصر الماركنتيلية.
عندما أعود إلى عديد الكتب والندوات – التي شاركت فيها قبل نحو ثلاثين عاماً – حول أسباب العولمة، ومظاهرها، ومُنجزاتها، وآفاقها.. أكاد لا أرى شيئاً تبقَّى من هذه الظاهرة، التي افْتُتِنَّا بها وأشبعناها تحليلاً.
نقلاً عن «عروبة 22»