مصطفى كامل السيد
أعشق زيارة مدينة الرباط المغربية، وأعتبرها من أجمل المدن العربية بتخطيطها البديع، والمساحات الخضراء.. داخلها وحولها، ومبانيها ذات الطابقين بلون جدرانها الأبيض ونوافذها وأبوابها الزرقاء، وشوارعها الرئيسية العريضة، واحترام سكانها لقواعد المرور، وطبعاً نظافتها البالغة.
تنوعها الاجتماعي لا يظهر بسهولة.. لمن يقتصر على رؤية أحياء الأثرياء فيها، ولكن لها – ككل المدن – وجهاً آخر، ففيها أيضا أحياء الأقل يسرا.. ببيوتها الصغيرة وشوارعها الضيقة المزدحمة، ولكن تلك تخلو من مظاهر البؤس التي تعرفها مدن أخرى في إفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ لذلك لا يعلق بذهن من يزورها سوى وجهها الخلاب الباعث على الانتشاء والسرور. ولذا أرحب بكل فرصة تحين لي لزيارتها، وهو ما حدث.. عندما عُرض عليَّ في منتصف شهور الصيف الماضي أن أكتب بحثاً، لأقدمه في مؤتمر علمي يُعقد في هذه المدينة الخلابة، فقبلت على الفور.
كان مكان انعقاد المؤتمر العلمي.. هو جامعة جديدة لم أزرها من قبل، وهي جامعة محمد السادس للعلوم التخصصية، وكما كنت قد زرت – طوال حياتي الأكاديمية – العديد من الجامعات في خمس من قارات العالم، فقد انجذبت خصيصاً لتلك الجامعة، بالتناسق الشديد في تخطيط مبانيها، وباللون الأبيض في كل جدرانها، وبعدم تجاوز الارتفاع طابقين في كل منها، وبالمساحات الخضراء التي تتخلل تلك المباني، وبطرقها المبلطة، التي تشجع على التمشي فيها، وبمرافقها المتعددة؛ التي تشمل مكتبات ومعامل وملاعب مفتوحة ومغلقة، وبالأدب الشديد الذي يميز تعامل العاملين فيها مع كل زوارها.
هذه الجامعة مولت إنشاءها شركة الفوسفات الوطنية، وهي شركة عامة تحظى بمركز قانوني يضمن استقلالها. هي ليست جامعة لكل أبناء الشعب، فالتعليم فيها ليس مجانياً، ولكن قيل لي إن ثمانين بالمائة من طلابها.. يتلقون دعماً يغطي نفقات دراستهم، ويدفع العشرون بالمائة الآخرون مصروفات كاملة. يتلقى ولي العهد تعليمه فيها، وربما يفسر ذلك الإجراءات المتشددة التي فوجئنا بضرورة المرور بها.. قبل أن يسمح لفريقنا بالدخول، والإقامة فيها طوال يومي مؤتمرنا العلمي.
انبهاري بالجامعة لم يتوقف فقط على روعة عمرانها، بل وجد أسباباً إضافية لها.. عند معرفة الجهة الداعية لنا؛ فهي مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد، الذي يضم أربعين من الباحثين الأكاديميين يعملون فيه، ويخدمهم ثمانون من الإداريين والعمال. خُصص له مبنى مستقل في هذه الجامعة. طبعاً أعجبني ذلك جداً، فقد قضيت عقدين ونصف من الزمان أدير على التوالي مركزين بحثيين لم يتجاوز عدد العاملين الأكاديميين غير المتفرغين اثنين.. في كل منهما، ولم يصل عدد الباحثين والباحثات في أي منهما لما يزيد على أصابع اليدين، كان مقر العمل في أولهما غرفة واحدة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ومقر الثاني – بعد عشر سنوات في الأول – شقة مؤجرة بثلاث غرف وصالة في حي المهندسين. في ظل هذه الظروف أدرنا برامج بحثية ونشرنا عشرات من الكتب، ونظمنا العديد من المؤتمرات.
… ولكن تخيلت ماذا كان يمكن لنا عمله، لو أتيحت لنا نفس موارد وتسهيلات مركز سياسات الجنوب الجديد.. في جامعة محمد السادس للعلوم المتخصصة.
الذي دعاني لتقدير هذا المركز الناشئ.. أنه يقدم المشورة للحكومة المغربية.. في العديد من الأمور في قضايا التنمية، وعلاقاتها بدول أفريقيا خصوصاً، ودول أخرى في الجنوب والشمال، وله العديد من المطبوعات.. التي تغطي قضايا التنمية، ويصل للمواطنين والمواطنات.. من خلال قناة يوتيوب خاصة، كان من حُسن حظي أني أدليت لها بحديث لمدة عشر دقائق، عن الموضوع الذي جاء بي إلى الرباط. وله علاقات وثيقة بالحكومة وبكبار رجال الأعمال المغاربة.
كما التقينا بالسيد يونس سكوري – وزير الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والشغل والكفاءات في الحكومة المغربية؛ وهي وزارة مسؤولة عن التشغيل والمشروعات الصغيرة والمتوسطة – وتحدث عما تقوم به وزارته. ومن أهم ما ذكره، أن الوزارة تقود حواراً اجتماعياً مع النقابات ومؤسسات رجال الأعمال.. من أجل ضمان زيادة العمالة، وتحسين ظروف العاملين. وكان من أهم مخرجات هذا الحوار الاجتماعي – في الفترة الماضية – قرار بزيادة الأجور والمرتبات، وهو ما التزمت به الحكومة.
نوستالجيا زمن العروبة
كل هذا.. مما يسُر، ولكن لماذا هذه النوستالجيا والحنين للزمن العروبي.. في خمسينيات وستينيات القرن الماضي؟
السبب الأول يعود إلى الجهة التي ذهبتُ معها إلى الرباط، وهي الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية، التي نظمت هذا المؤتمر بالتعاون مع معهد التخطيط العربي بالكويت، ومعهد التخطيط القومي بمصر.
هذه الجمعية لها تاريخ، فقد نشأت في سنة 1988 في أعقاب مؤتمر نظمه مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، حول أزمة الديمقراطية في الوطن العربي، ولم يجد هذا المركز عاصمة عربية تستضيفه، فالتقى الأشخاص المشاركون فيه في ليماسول بقبرص.. في سنة 1983. وبعد أن بحث المثقفون العرب من كافة الاتجاهات أعراض أزمة الديمقراطية في الوطن العربي طرحوا على أنفسهم سؤالاً.. مضمونه ماذا بوسعهم عمله لتحقيق هذه الديمقراطية المنشودة، وكان جوابهم أن عليهم أن ينتظموا في جمعيات مهنية وحقوقية.. تجمعهم حول قضايا مشتركة، تمهد الطريق لتعزيز أواصر التضامن العربي.
نشأت – بعد هذا المؤتمر – أربع منظمات؛ منها المنظمة العربية لحقوق الإنسان، والجمعية العربية للبحوث الاقتصادية، والجمعية العربية لعلم الاجتماع، والجمعية العربية للعلوم السياسية. وربما كانت الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية.. هي من بين أنجحها، فقد عقدت حتى الآن ثمانية عشر مؤتمراً، ضم باحثين وباحثات من كل الوطن العربي، وتعددت أماكن انعقادها بين عواصم عربية عديدة، وتنوي عقد مؤتمرها التاسع عشر في تونس.
هذه الجمعية أسسها عدد من أبرز الاقتصاديين العرب ومن توجهات فكرية متنوعة منهم المرحومون خير الدين حسيب (العراقي)، والدكتور إسماعيل صبري عبدالله، والدكتور سعيد النجار، والدكتور محمد محمود الإمام (من مصر)، وفايز صايغ (الفلسطيني-اللبناني)، وفتح الله والعلو (المغربي). كما يضم مجلس إدارتها في الوقت الحاضر اقتصاديين من دول عربية عديدة.. من الكويت والأردن وسوريا، والجزائر، وأمينها العام هو الدكتور أشرف العربي (مدير معهد التخطيط القومي في القاهرة، ووزير التخطيط الأسبق)، ورئيس مجلس إدارتها هو الدكتور محمود محيي الدين.. الاقتصادي المصري البارز ونائب رئيس البنك الدولي سابقاً، والمبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لتمويل أجندة 2030 للتنمية المستدامة.
كان سبب زيارتي للرباط هو مشاركتي في المؤتمر الثامن عشر لهذه الجمعية، وكان موضوعه هو «مستقبل الاقتصادات العربية: المربكات المفروضة والإصلاحات المنشودة«، والذي عقد يومي 28-29 نوفمبر 2024، وناقشت جلساته الست.. موضوعات هي: أثر التغيرات المتلاحقة والمربكات على مستقبل الاقتصادات العربية، ومن هذه المربكات تأثير الصراعات والاضطرابات على النمو في العالم العربي وآليات الصمود، والتنويع الاقتصادي ومحدداته، وتأثير تحول الطاقة على السكان، والثورة الصناعية الرابعة والتعامل مع الذكاء الاصطناعي، والتحول الرقمي، وتمكين المرأة، وأخيراً كانت الجلسة السادسة حواراً حول تعزيز القدرة على الصمود والتعامل مع محركات النمو والتكامل الإقليمي في العالم العربي.
شارك في هذه الجلسات عشرات من الباحثات والباحثين.. من دول عربية عديدة في المشرق والمغرب، وتراوحت أدوارهم وأدوارهن.. بين كتابة الأبحاث والتعقيب عليها، ورئاسة الجلسات والمشاركة في المناقشة المفتوحة حولها. وكان من دواعي رضائي.. أن تتمكن مؤسسة عربية من جمع هذه الأعداد من العرب من دول مختلفة؛ وحتى باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي.. لتمكين باحثين وباحثات عرب خارج الوطن العربي، من المشاركة في هذه الجلسات.. للحوار حول قضايا حيوية بالنسبة لمستقبل الوطن العربي، في الوقت الذي لا تستطيع الحكومات العربية.. أن تلتقي على موقف واحد في مواجهة العدوان الإسرائيلي.. المصحوب بغطرسة لا حد لها، وتواطؤ قوى كبرى معه.
كان موضوع مشاركتي.. هو بحث كتبته – بناء على طلب اللجنة العلمية المنظمة لهذا المؤتمر – حول أثر التغيرات الجيوسياسية على الاقتصاد العربي، واخترت أن أركز على صورة واحدة من هذه التغيرات؛ وهي النزاعات المسلحة في الوطن العربي. واشتمل بحثي النزاعات المسلحة في سبع من البلدان العربية وهي؛ الصومال والسودان وليبيا واليمن وفلسطين وسوريا والعراق، وذلك منذ 2011 وحتى 2024، استعرضتُ الكتابات الخاصة بأثر الصراعات المسلحة على الاقتصاد، وفي حدود البيانات المتوافرة.. قدّرتُ مدى حدة هذه النزاعات، وآثارها على معدل نمو الناتج المحلي، ومعدل الاستثمار، وحصيلة الصادرات، والقدرة المؤسسية للدولة التي يجري فيها النزاع، كما قدرت آثاره على الدول المجاورة.
وخلصت إلى أن الآثار الاقتصادية للنزاع.. تتوقف على مدى حدته؛ المقيسة بعدد ضحاياه، ومدى انتشاره الجغرافي، ومدى استمراره، ونوع الأسلحة المستخدمة فيه. ولذلك كانت أفدح الآثار.. هي ما عرفته سوريا والأراضي الفلسطينية.
طبعاً أكدتُ على أن النزاعات المسلحة.. لها آثارها المتعددة السياسية والاجتماعية والبيئية والنفسية. ولكن كان المطلوب مني.. التركيز على أبعادها الاقتصادية، التي لابد أن تؤخذ في الحسبان.. عند البدء في إجراءات إعادة التعمير بعد انتهاء الصراع.
وماذا بعد؟
لقد أذكت هذه الزيارة للرباط، وما جرى فيها.. حنيني لتلك السنوات؛ عندما كان العرب – شعوبا وحكومات – يمتلكون شعوراً بالتضامن.. حول كل ما يجمع العرب. ويشغلني الآن.. كيف يمكن أن نتخذ خطوات متواضعة.. لاستعادة هذا الشعور بالتضامن، على الأقل بين بعض ممن يمثل النخبة في الوطن العربي، الذين يدركون مثلي.. الحاجة لاستعادة هذا التضامن.
نقلاً عن «الشروق«