د. عصام عبدالفتاح..
ما أشبه الليلة بالبارحة!
يكاد التاريخ يكرر نفسه، فالمحنة واحدة.. وإن اختلف أشخاصها وسياقاتها.
هذه المحنة لا مثيل لها.. في الدول التي عرفت الحداثة وتجاوزتها، وباتت تغترف من ثمار إعمال العقل.. في فهم الواقع وتنظيمه، وضبط سلوك الإنسان فيه.
ربما يكون الخطأ الوحيد.. الذي وقع فيه د. سعد الدين الهلالي، هو أنه توهَّم للحظة أن العقل العربي.. قد بدأ يفيق من غيبوبته، التي غاص فيها منذ محنة ابن رشد.. في القرن الثاني عشر؛ فراح يعيد الكرَّة، ويكرر المحاولة الرشدية.. ليقع هو الآخر، ضحية لذات المحنة.. التي سبقه إليها قدماء الفلاسفة والمفكرين؛ ممن تجرأوا على إعمال العقل.. أمثال ديكارت وجاليليو وجيوردانو برونو وجاسندي.. في أوروبا، وطه حسين وعلي عبدالرازق ومنصور فهمي ونصر أبوزيد.. في مصر. ومنهم من حوكم، وتمت تصفيته.. بتهمة الهرطقة، وآخرون.. عُزلوا من وظائفهم، وقُبروا في منازلهم صامتين.
كان ابن رشد يقسم الشريعة.. إلى ظاهر وباطن. والباطن عنده.. هو الذي يخضع للتأويل، الذي يعرفه بقوله: «هو إخراج دلالة اللفظ.. من الدلالة الحقيقية، إلى الدلالة المجازية؛ من غير أن يخل – في ذلك – بعادة لسان العرب.. في التجوُّز من تسمية الشيء بشبيهه، أو بسببه، أو لاحقه، أو مقارنة، أو غير ذلك من الأشياء.. التي عددت.. في تعريف أصناف الكلام المجازي».
وفي التفرقة بين التأويل والتفسير، يقول الجرجاني: «إن التفسير.. هو الكشف والإظهار. وفي الشرع، هو توضيح معنى الآية وشأنها وقصتها، والسبب الذي نزلت فيه.. بلفظ يدل عليه دلالة ظاهرية». أما عن التأويل في الشرع، فيقول: «هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر.. إلى معنى يحتمله؛ إذا كان المحتمل.. موافقاً للكتاب والسنة؛ مثل قوله تعالى (يُخرِج الحي من الميت)، فإذا أراد به إخراج الطير من البيضة.. كان تفسيراً، وإن أراد به إخراج المؤمن من الكافر، أو العالم أو الجاهل.. كان تأويلاً».
ولعل أهم عبارة لابن رشد، هي تلك التي تقول «ونحن نقطع قطعاً.. أن كل ما أدَّى إليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع.. أن ذلك الظاهر يقبل التأويل». إن التأويل عند ابن رشد، يمتنع معه الإجماع.. وبالتالي يمتنع معه التكفير.
وثمة سبب منطقي آخر، لرفض الإجماع.. منهجاً للبرهان في القضايا التي لا علاقة لها بالمسائل الإيمانية، المتعلقة بأركان الدين الخمسة الأساسية. ألا وهو أن «الإجماع على رأي أو مبدأ ما.. ليس دليلاً منطقياً على صحته»، لأن محكمة العقل.. هي الوحيدة، المنوط بها الحكم بصحة أو بطلان القضايا. حكم الخليفة يعقوب ابن منصور – بإيعاز من الفقهاء – على ابن رشد في القرن الثاني عشر.. بالنفي إلى إليسانة، وحرق كتبه كلها.. بعد أن اتُّهِم بالهرطقة والزندقة. ومنذ ذلك التاريخ أصبح العقل العربي «خارج الخدمة».. تحت سيادة فكر الغزالي وابن تيمية، ثم الفكر الوهابي والإخواني من بعدهما.
ماذا قال د. الهلالي بالتحديد؟
قال إن وظيفة الأنبياء، هي البيان للناس. ومن بعدهم، يتولى البيان.. أهل العلم والتذكير؛ إذ يبينون للناس المسائل ودقائقها.. دون أن يطالبونهم بشيء، وعلى الناس اتخاذ القرار الصالح لهم. أي أنه لم يطالب الناس بالمساواة بين الذكر والأنثى في الميراث.. كما زعم الكثيرون.
ويستند د. الهلالي – في رأيه – إلى أن الشريعة.. تخلو من نصوص تنهى عن المساواة بين الرجل والمرأة، المتساويين في مركز القرابة.
كما أن دولاً إسلامية – كتركيا وتونس – تأخذ بمبدأ المساواة بين الذكر والأنثى، بالإضافة إلى أن فرضية تراضي أفراد الأسرة – فيما بينهم – على مبدأ المساواة في توزيع الميراث بينهم.. غير منهي عنه في القرآن والسنة، وبالتالي فليس هناك ما يمنع الناس من المطالبة بمبدأ المساواة في الميراث.. عبر الطرق القانونية.
خرج – بعد ذلك – بيان الأزهر، يتهم د. الهلالي.. بأن استدلالاته غير صحيحة، وأنها تهدد الاستقرار المجتمعي، وتنال من هيبة الدولة والدستور، وتثير الفتن. وأنه يفتئت بها على ولي الأمر، ويُنتج فكراً تكفيرياً.. يخالف الإجماع وفتاوى ابن تيمية وابن القيم!
وليس بخافٍ على أحد، أن ابن تيمية.. هو الصائغ الأول لأيديولوجيا الإسلام السياسي، التي أنبتت الوهابية والإخوان المسلمين وداعش وأخواتها. كما أنه المؤسس الحقيقي للجهادية الدموية، وصاحب الفتاوى الاستئصالية الفتاكة.. ضد المختلفين عنه فى المذهب. وسار على هداه تلميذه النجيب ابن القيم.
نقلاً عن «المصري اليوم»