د. أحمد يوسف أحمد
أثارت تطورات أخيرة شهدتها المنطقة – كان لها طابع المفاجأة والإثارة – مشاعر وردود فعل مختلفة لدى الكثيرين، وتعنيني بصفة خاصة.. مشاعر الحيرة والقلق عند بعض المصريين.. حرصاً على وطنهم الغالي ودوره، خاصة أن حملات التشويه لمصر ودورها.. مستعرة كالعادة في وسائط إعلامية كثيرة. ولرواد تلك الحملات المشبوهة أقول: «موتوا بغيظكم». أما أبناء الوطن المخلصون.. الحريصون على مصر ودورها، والذين ربما تشغلهم أعباء الحياة اليومية، عن استعادة بعض المسلَّمات والحقائق، فأقول: لا تكن بكم أدنى خشية على مصر ودورها، فهو حقيقة موضوعية تاريخية، قد يتراجع أحياناً لظروف قاهرة، أو سياسات جانبها الصواب. لكنه يبقى عبر الزمن.. من الحقائق الراسخة في منطقتنا من العالم.
ولست بحاجة للتنويه بمقولات ابن مصر العظيم جمال حمدان، لكني أود التذكير، خاصة أن هذا الدور لم يكن أبداً دوراً سياسياً فحسب، وإنما تجاوز ذلك دائماً إلى الدور الثقافي والحضاري. ومازلت أتذكر كلمات المناضل والسياسي الجزائري محمد الميلي – رحمه الله – وهو يحدثني عن لهفة المثقفين الجزائريين.. في انتظار العدد الشهري من مجلة «الهلال» – التي أبدع الجزائريون في ابتكار وسائل تهريبها رغم أنف المستعمر – أو احتفاء الجمهور الجزائري بجولات فرقة يوسف وهبي المسرحية في ربوع بلادهم، فلم يبدأ الدور المصري في الجزائر بدعم حركة التحرير المسلحة، وإنما سبق الدور الثقافي والحضاري ذلك بكثير. وما ينطبق على الجزائر.. ينطبق على غيرها، فالدور الريادي للمعلم المصري في النهضة التعليمية للبلدان العربية.. موضع امتنان من الجميع.
وكنت منذ أيام أناقش دارساً عربياً في رسالته التي تقدَّم بها لإحدى المؤسسات التعليمية العسكرية الرفيعة، وقلت له.. إن وجوده في مصر لتلقي العلم – رغم ما يملكه بلده من إمكانات توفر له فرصة التعلم المتميز في بلده، وفي أي مكان خارجها – لدليل على حُسن العلاقات بين البلدين، فإذا به يرد عليَّ بأن كل قادته تلقوا العلم في مصر.
وبعد الدور الريادي الثقافي والحضاري، قادت مصر باقتدار.. حركات التحرر في الوطن العربي بعد ثورة 23 يوليو 1952، وتصدَّت بنجاح.. لمخططات ربط الوطن العربي بسلسلة الأحلاف الغربية، ووضع شعبها وجيشها وقيادتها المسمار الأخير.. في نعش الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية؛ بالصمود فالانتصار على العدوان الثلاثي 1956. وحفظت السياسة المصرية النزيهة.. النظام العربي من خطر التمزق؛ بتصديها العاقل للمطالبة العراقية بضم الكويت قبيل استقلاله 1961. وساعدت الشعب اليمني على الخروج من قمقم العزلة، والتخلف.. بنصرة ثورة سبتمبر 1962.
ورغم فداحة الهزيمة في يونيو 1967، فإن الشعب المصري وضع وطنه على الطريق الصحيح.. بتمسكه بمواصلة النضال وتصحيح الأخطاء. وتصدى مقاتلوه للعدو بنجاح بعد أيام من الكارثة، واستنزفت مصر عدوَّها على مدار 6 سنوات.. حتى حرب أكتوبر العظيمة. وإذا كانت الدبلوماسية السلمية للسادات قد أدت لتراجع مؤقت في دور مصر، فمن الواجب أن نتذكر أن الدول العربية – التي اعترضت على مسار التسوية المصري – لم تتمكن من تغييره وإنما طوَّرته. كذلك فإن بروز احتمال تحقيق إيران نصراً في حربها ضد العراق، دفع القمة العربية 1987.. إلى البدء في إنهاء مقاطعة مصر؛ باعتبار أن دورها لا غنى عنه.. إن كان ثمة حديث عن مواجهة عربية مع إيران.
ثم لعبت مصر دورها المقدَّر.. في مواجهة الغزو العراقي للكويت دبلوماسياً وعسكرياً. وأخيراً – وليس آخراً – كان الدور المصري حاسماً في كسر شوكة الحركات الإرهابية.. التي تنسب نفسها للإسلام، والتي كانت قد ازدهرت بعد أحداث ما عُرف بـ«الربيع العربي».
… سيُقال – بطبيعة الحال – إن كل هذا صحيح، ولكنه ينتمي للماضي. فأين مصر من التحديات والمخاطر الراهنة التي أحالت غزة لأنقاض، وقتلت وأصابت نحو مائتي ألف من ابنائها، ويزايد بعض الحملات على مصر.. لعدم انخراطها في الحرب.. دفاعاً عن غزة وشعبها. ورغم التأييد الكامل لحقوق الشعب الفلسطيني، بما فيها الحق في مقاومة الاحتلال، فإن مصر مرتبطة بالتزامات تعاقدية، يفضي الخروج عليها لتداعيات سلبية، وبالذات فيما يتعلق بسمعة مصر.. في الالتزام بتعهداتها الدولية.
أما إذا كان الأمر يتعلق بنصرة الأشقاء في غزة؛ فإن مصر لم تكن شريكة في تخطيط عملية المقاومة.. في 7 أكتوبر، أو اختيار توقيتها.. حتى تُدعى للمشاركة فيها.
وعندما خاضت مصر وسوريا معاً.. حرب أكتوبر، احتاج الأمر منهما سنوات.. كي تتفقا على خطة مشتركة، وساعة صفر واحدة.
لكن مصر كانت صاحبة الجهد الرئيسي في غزة.. منذ بداية العمليات وحتى الآن؛ فتحملت العبء الأكبر في تقديم المساعدات لأهل القطاع، حتى أوجدت القوات الإسرائيلية وضعاً.. يستحيل فيه استخدام معبر رفح لإدخال المساعدات. وتحملت العبء الأكبر كذلك.. في تقديم الأفكار الصالحة لعبور الفجوات بين الجانبين؛ في جهود الوساطة التي كُللت بالنجاح مرتين.. لولا العدوانية الإسرائيلية.
ثم يأتي التصدى الحاسم لأفكار تهجير الغزاويين.. لمصر والأردن أو لأي مكان، والمسارعة بوضع خطة مصرية بديلة، وحشد الدعم العربي لها.. في قمة مارس الماضي بالقاهرة؛ ناهيك بالموقف الحاسم الصارم.. الذي تبناه الرئيس في كلمته النموذجية أمام قمة بغداد الأخيرة، وبالذات تنبيهه إلى أن كل ما يجري.. من محاولات تطبيع بين إسرائيل والدول العربية، لن يُجدي نفعاً.. طالما بقيت المشكلة الفلسطينية بغير حل.
لا تدَّعي مصر.. أنها تحرك الأمور في المنطقة بأصبعها الصغير؛ فهي دولة مسؤولة تعرف قدرها، ولا تدَّعي أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان؛ فهي تدرك قيود الحركة على الجميع. لكنها لا تقف ساكنة، ولا تتخلى عن مسؤولياتها وأشقائها، ولا تقول إلا ما تفعل. ولينعق الحاقدون على دورها ما شاءوا.. فلن يدفعوها للتخلي عن مسؤولياتها تجاه أمنها، وأمن العرب كافة.. وهما لا يتجزآن. وليواصل المصريون – بكل همة واقتدار – عملية البناء في كل شبر من أرضهم الغالية، فمن نجاح البناء وحده.. يقوى دور الوطن ويزدهر.
نقلاً عن «الأهرام»