مصطفى كامل السيد
لا شك أن الرئيس الأمريكي السابع والأربعين.. هو نمط فريد من رؤساء الولايات المتحدة، بالنسبة للشعب الأمريكي.. وبالنسبة لنا نحن العرب، فهو يصعب التنبؤ بمواقفه؛ التي لا تعكس توجهاً أيديولوجياً محدداً، ولا حصيلة مناقشات مع معاونيه، وإنما هي – حسبما انتهى إلى ذلك معلقون أمريكيون – وليدة نزوات شخصية.. تتغير من لحظة إلى أخرى. ومن الواضح أن هذه النزوات لا تؤثر فقط على المواطنين الأمريكيين الذين يفقدون وظائفهم، أو يدفعون أسعاراً أعلى للواردات الأجنبية.. التي يفرض عليها ضرائب مرتفعة، ولكنها تؤثر على مواطني دول أخرى.. تتأثر أوضاعهم الاقتصادية بالتعريفات الجمركية العالية، التي شرع في اتخاذها في مواجهة المكسيك وكندا، ووعد باتخاذها تجاه دول أخرى؛ في مقدمتها الصين والاتحاد الأوروبي.. وحتى اليابان، التي لا يبدو أن زيارة رئيس وزرائها له ستشفع في تجنبها.
وفيما يتعلق بوطننا العربي، فنحن نتأثر.. ليس فقط بصفقات السلاح، التي شرع في تقديمها لإسرائيل، ولكن في تجاوزه كل اعتبارات القانون الدولي وحقوق الإنسان ومبادئ الأخلاق، وحتى المصلحة الوطنية للولايات المتحدة، بفكرته التي أعلن عنها.. بتهجير مليون ونصف من الفلسطينيين إلى مصر والأردن.. ليتم تعمير غزة، دون أي وعد بعودتهم لها بعد أن يتم هذا التعمير.
الدول المتقدمة.. التي سيفرض عليها التعريفة الجمركية المرتفعة، وعدت أن ترد عليه بالمثل. ولكن كيف يرد العرب على اقتراحاته المهينة بتهجير الفلسطينيين؟
لا شك أن ذلك هو ما يشغل الآن العواصم العربية الرئيسية.. بالنسبة للقضية الفلسطينية، ولكن معالم الرد العربي ليست مكتملة، باستثناء رفض ما جاء على لسانه في مؤتمره الصحفي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبوع قبل الماضي، وليس من المؤكد أن مجرد الرفض العربي.. سيجعله يتراجع تماماً عن هذه الفكرة، أو أنه – وهذا هو الأخطر – سيقف مكتوف اليدين، وقيادات الحكومة الإسرائيلية ومؤسستها العسكرية تمضي في تنفيذها بالوسائل الوحشية.. التي اشتهرت بها. ولذلك ففهم عقلية ترامب ضروري أولاً، حتى لا نستسلم لتراجعات لفظية.. قد ينطق بها، دونما إدراك لما قد يأتي منه فيما بعد، وحتى نتعامل معه بالأسلوب الذي يفهمه ويأخذه على محمل الجد.
الملامح الرئيسية للشخصية
تشكلت شخصية دونالد ترامب.. بنشأته العائلية، وبنمط التعليم الذي حصل عليه، وبتجربته كرجل أعمال، وبالمصالح التي تربطه بقيادات وشخصيات نافذة.. في دول أخرى – ومنها عالمنا العربي – وبما يعرفه من تقاليد تاريخية أمريكية.. في الاستيطان في العالم الجديد، وكذلك باللحظة التاريخية التي تولى فيها رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
وكما هو معلوم – ووفقاً للموسوعة البريطانية – نشأ دونالد ترامب في أسرة ثرية، فأبوه فريد ترامب كان صاحب شركة عقارية، تقوم ببناء المساكن والفنادق، وكوَّن من ذلك ثروة.. جعلته من أصحاب الملايين في الولايات المتحدة، ولكن لم تخلُ ممارساته من تغاضٍ عن القانون؛ مما جعله يخضع للتحقيق من جانب مجلس الشيوخ الأمريكي، ويتردد على المحاكم دفاعاً عن نفسه.. درءًا لهذه الاتهامات. وقد عمل دونالد ترامب مع والده، وورث عنه الشركات التي قام بتطويرها فيما بعد، وتلقى دونالد ترامب تعليمه الثانوي في مدرسة عسكرية داخلية New York Military Academy وفي جامعة فوردهام، ثم حصل على شهادة في الاقتصاد من مدرسة وارتون للتمويل والاقتصاد (التابعة لجامعة بنسلفانيا) التي درس فيها ثلاث سنوات 1966-1968.
وهكذا – على عكس رؤساء أمريكيين سابقين، تخرجوا في كبرى الجامعات الأمريكية.. مثل هارفارد وييل، وتخصصوا في القانون – كان اهتمام دونالد ترامب بالاقتصاد.. في كلية جامعية مغمورة. ومع ذلك، فسنوات تعليمه مكَّنته من الحصول على إعفاءات متعددة من الخدمة العسكرية.
وواصل – بعد تخرجه – العمل مع والده، ثم استقل عنه بعد أن نجح في إنشاء قرابة خمسمائة شركة.. تعمل في مجالات متعددة، منها الفنادق، والأبراج السكنية، والمنتجعات الفاخرة، وملاعب الجولف، والتجارة والترفيه وشبكات التلفزيون. ويصف بعض علماء الاقتصاد هذا النمط من النشاط، بأنه يمثل الرأسمالية الطفولية.. التي لا تضيف إلى الطاقة الإنتاجية للاقتصاد، ولكنها توفر قنوات الإنفاق الترفي لأصحاب الدخول العالية، وقد تكررت الشكاوى من العاملين لديه.. من ممارسات تمييزية ضد المواطنين الأمريكيين من أصول أفريقية، أو المنتمين إلى أقليات. وجرَّته هذه الممارسات وغيرها إلى المحاكم، التي أدانته في أربع وثلاثين تهمة.. بخروج عن القانون؛ ليس فقط بالتزوير في إقرارات ضريبية، ولكن كذلك بمحاولة التغطية على فضائح جنسية.
أنشطة شركات ترامب – التي أدمجها كلها في مؤسسة قابضة – سماها منذ سنة 1974 مؤسسة ترامب The Trump Organization – امتدت إلى دول عديدة في العالم، ووصلت إلى الشرق الأوسط، واستفادت – وفقاً لصحيفة «نيويورك تايمز» – من وجوده في البيت الأبيض في فترة رئاسته الأولى، وخصوصاً في منطقة الخليج.
وبالإضافة إلى أنشطة مؤسسة ترامب في دول الخليج، وضع زوج ابنته جاريد كوشنر عينيه على هذه المنطقة، فأسس – مع شركاء خليجيين – شركة أوراق مالية Affinity Partners أو شركاء التقارب، وقد نجحت في تعبئة أربعة مليارات ونصف من الدولارات.. من الصناديق السيادية في الخليج، بفضل اتصالات كوشنر ببعض المسؤولين في هذه الدول.. خلال فترة ترامب الأولى. ولكوشنر كذلك استثمارات واسعة في إسرائيل. ومن المعروف أن كوشنر هو صاحب فكرة الاستغلال العقاري لساحل غزة، وقد صرَّح العام الماضي – في محاضرة له بجامعة هارفارد – أن شاطئ البحر المتوسط في غزة له قيمة عالية، ونصح بأن تُخلي إسرائيل هذه المنطقة بعد الحرب.. لإعدادها كمصيف، بعد «تطهيرها».
هذه هي خلفية الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية الذي لم يدرس القانون، ولا يحفل به سواء.. كما بدا من ممارساته في مجال الأعمال، وهو ما ورثه عن أبيه. أو مسلكه الشخصي – الذي أدانته عليه محكمة أمريكية في 34 دعوى جنائية – وهو صاحب المواقف العنصرية تجاه غير البيض، والذي لا يرى في الأراضي – أي أراضٍ – سوى فرصة للربح.. دون أي اعتبار لتراث أصحابها، ولا للبيئة، ولا لفكرة الوطن.
وهل كان المستعمرون البيض الأوائل في أمريكا الشمالية، يقيمون وزناً لهذه الاعتبارات.. في تعاملهم مع السكان الأصليين للأمريكيتين، أو في بحثهم عن الثروات في الغرب الأمريكي، الذي لا يتوقف عن التفكير في مصالحه الشخصية.. حتى عندما يتولى منصب رئيس أقوى دولة في العالم. وكذلك يواصل التعامل مع معاونيه في البيت الأبيض.. كما كان يتعامل مع مستخدميه في شركة؛ هو مالكها الوحيد، والآمر الناهي فيها بلا شريك، فلا يتوقع منهم سوى الولاء الكامل، وإلا فإنه سيتخلص منهم؟
وقد أحاط نفسه ليس فقط.. بمن يدينون له ببقائهم في مناصبهم، ولكنهم يجمعون – فيما بينهم – على التأييد المطلق لخطط إسرائيل التوسعية؛ التي ينسبها بعضهم لوعود توراتية. ويتعامل مع العالم.. متصوراً أنه إمبراطوره الوحيد، في الوقت الذي فقدت فيه دولته مكانتها.. كقوة مهيمنة؛ بعد تراجع الديمقراطية فيها، وبالتحدي الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، الذي تمثله الصين كقوة عظمى صاعدة.
كيف يتعامل العرب مع هذا الرئيس؟
خيراً فعلت الحكومات العربية – وفي مقدمتها حكومتا مصر والأردن، ومعها حكومات السعودية والإمارات وقطر – برفضها الواضح والصريح لأفكاره المتهورة.. عن تهجير الفلسطينيين من غزة، وهو ما أدى إلى ما يبدو كتراجع عنه.. كموقف ثابت، تحت دعوى أنه اقتراح للتفاوض. وأنه يتريث في هذا الأمر. وهذا لا يُطمئن إلى أن هذه الفكرة قد دُفنت إلى الأبد، فقد شجَّع ذلك وزير الدفاع الإسرائيلي ورئيس أركان جيشها.. إلى الأمر بإعداد الخطط لتنفيذ هذا التهجير، كما نادى به قادة آخرون في حكومة إسرائيل وخارجها.
اللغة التي يفهمها ترامب، هي لغة السوق: أي المكسب والخسارة، فلتجتهد الحكومات العربية في أن توضح للرئيس الأمريكي.. ما يمكن أن يخسره شخصياً، وتخسره دولته.. من مصالح في الوطن العربي، ومن استثمارات خارجه؛ ومن هذه الخسائر التحول إلى دول أخرى تتعاون معها، وفي مقدمتها الصين ومشروعاتها الكونية، كما تمتد الخسارة إلى إسرائيل وقادتها.. بسعي العرب – مع الدول الصديقة – لفرض العقوبات الدولية عليها، إزاء كل ما ترتكبه من جرائم حرب وتطهير عرقي، وما يمكن أن يكسبه هو ودولته.. وكل الشرق الأوسط، إذا ما سعى إلى إنفاذ الرؤية العربية للسلام؛ وهي إقامة الدولة الفلسطينية.. وعاصمتها القدس في حدود 1967، وجلاء إسرائيل عن كل الأراضي العربية التي احتلتها.. في مقابل اعتراف الحكومات العربية بإسرائيل. وليدرك العرب أن الولايات المتحدة – في زمن تراجُع نفوذها في العالم – لا تملك أدوات إنفاذ إرادتها عليهم.
نقلاً عن «الشروق»