د. توفيق أكليمندوس
ترددت قبل دخول الحلبة، التوقيت ليس مثالياً، وخبرتي في هذا الموضوع محدودة، ولست من خبراء الإعلام وعلوم التواصل. ما دفعني إلى تجاوز ترددي.. هو كثرة مشاهداتي، وإن كانت كلها ظرفية ووقتية، وصلاتي في النخب الفرنسية والغربية. أي أنني أتصور أن لديَّ ما أضيفه وأن طرح الرأي قد يفيد، حتى لو كان هذا الرأي قاصراً خاطئاً، لأنه قد يثير نقاشاً بناءً.
بعض الملاحظات الأولية، من هو المستمع أو القارئ الذي نريد إقناعه؟ مخاطبة النخب ليست كمخاطبة العامة، مخاطبة العلماني ليست كمخاطبة المتدين، مخاطبة الإعلام والجماعة العلمية المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط ليست كمخاطبة النخب التي لا تعرف الكثير عن المنطقة، والقائمة قد تطول.
تقسيم أوَّلي وسطحي للفئات التي نخاطبها قد يعين، هناك في كل بلد أوروبي أعرفها أقلية تؤيد الحق العربي، وأقلية تؤيد إسرائيل، وأغلبية واضحة لا رأي محدد لها، أو بمعنى أدق… أغلبية واضحة يتغير رأيها مع الظروف.. وفقاً لفهمها للأمور ولخطاب الإعلام.
يوم 7 أكتوبر انحازت هذه الأغلبية إلى إسرائيل بوضوح، الحادث جلل، وأحيا ذكرى مذابح الحرب العالمية الثانية، وكان من بين الضحايا والمختطفين عدد كبير من مزدوجي الجنسية، ولكن عنف الرد الإسرائيلي واستمراره أفقدا تدريجياً الدولة العبرية هذا التأييد، وبتعبير آخر، تسببت المذابح اليومية في تلاشي ذكرى المذبحة الأولى. وقيام إسرائيل باستغلال الظرف لتنفيذ مشروعاتها في الضفة الغربية لعب دوراً كبيراً في هذا التطور.
الموقف من إيران مختلف، إيران ليست «شعباً أعزل» يطالب بحقوقه المشروعة كالشعب الفلسطيني، وحماس على مر تاريخها تفادت ارتكاب هجمات إرهابية في أوروبا، أو في مناطق أخرى في العالم، على عكس إيران وحزب الله، هناك خوف من إيران، واحترام لحضارتها وإعجاب بقدراتها، وكراهية عميقة لها في أغلب المؤسسات السيادية. يضاف إلى هذا أن خطاب نظامها السياسي يقول بضرورة محو إسرائيل من على الخريطة ويقولها باستمرار ودون مواربة. نعم الناس في الغرب مرعوبة من تبعات انهيار الدولة. هناك ومن مخاطر هذه الحرب، ونعم هناك انطباع لدى النخب أن نيتانياهو فرض أجندته على الجميع، ولكن كل هذا لا ينفي الرغبة العارمة.. في التخلص؛ إما من البرنامج النووي الإيراني، أو من نظامها الحاكم، أو من الاثنين.
أعود إلى تقسيمي، لا أعرف كل ما يدور. ولكن انطباعاً تشكل عندي، أننا نفضل مخاطبة من يؤيدنا دائماً ومبدئياً. وهذا طبيعي، ولا أطالب طبعاً بمقاطعة هؤلاء، أو بتجاهلهم. ولكنني ألفت النظر إلى ضرورة مخاطبة من يمثل الجمهور المتأرجح، ومن يؤيد إسرائيل، لا سيما عقلاء الجاليات اليهودية، أغلب – وليس كل – من يؤيد دائماً الحق الفلسطيني ينتمي إلى قوى سياسية محسوبة على اليسار، أو إلى قوى سياسية تعتمد أساساً على أصوات المسلمين، ولا تتردد في التحالف مع الإخوان المسلمين، وهو لا يعبر عن توجهات أغلبية الناخبين، وفرصه في الوصول إلى سدة الحكم محدودة – مع اختلافات من دولة إلى أخرى – مرة أخرى لا أنادي بعدم التعامل معه، وأتفهم الرأي الذي يقول إن الحق الفلسطيني لا يملك ترف الفرز، فهو بحاجة إلى كل صوت، ما أقوله هو… الاكتفاء بهذا خطأ، وقد يخلق انطباعاً أن القضية الفلسطينية قضية يسارية أو إخوانية، وتوظف لأغراض خاصة بخطط هذين الفريقين، وهي خطط ترفضها قطاعات واسعة.
أتصور أنه يمكن التأثير على الرأي العام الغربي.. بما فيه المتعاطفين مع إسرائيل، وأنه يمكن صياغة خطاب يتمسك بالحقوق، ويتفق وتوجهات «الكتلة الصلبة» في الرأي العام الغربي. الرئيس السادات نجح في هذا في مرحلة سابقة.
نعم تغيرت الظروف، المرحلة الحالية مختلفة… وأسوأ. الجروح تعمقت وكل خطاب كراهية يغذي خطاباً مماثلاً.. صادراً من الفريق الآخر، والانتهاكات وعمليات استهداف المدنيين تضاعفت، لا أطلب محاكاة السادات، فلكل عصر مقتضياته.
أسوق بعض الأمثلة على ما يمكن عمله، هناك فارق بين إلقاء تهمة «الكيل بمكيالين»، وبين رصد ومناقشة التحيزات.. التي تؤثر على موضوعية التغطية. نعم يستحقون تهمة الكيل بمكيالين، ولكنه من الممكن جداً أن تُرد إلينا – وإلى أي قائل بها في أي مكان في العالم – كلنا.. نحن وهم وغيرنا، لا نهتم مثلاً ببعض الحروب الأهلية في إفريقيا الجنوبية، ما يمكن فعله هو كتابة تقارير.. تناقش موضوعية التغطية الإعلامية، واعتمادها على أفكار نمطية لا تمت للواقع بصلة، ولجوئها إلى مصطلحات غير دقيقة، لها دلالات سلبية تؤثر على فهم القارئ أو المستمع، وإدانة عدم تمثيل الخبرة العربية في الحلقات النقاشية.
مشكلة أخرى، هي ميلنا إلى عدم التعليق على المقولات.. التي تفترى على مصر، وتختلق تهماً لا أساس لها. أفهم منطق دولتنا، التعليق والنفي يلفتان النظر إلى وجود المقولة، ويساهمان في بثها. والسكوت يقتلها. هذا الموقف له مزايا مفهومة، ولكنني أود لفت النظر إلى عيوبه.
قد تموت كل مقولة بسرعة، ولكن كثرتها – حتى لو كان عمرها قصيراً – يترك آثاراً في وعي وذاكرة الناس. مثال آخر قد يكون خلافياً.
الإسرائيليون، ومعسكر «الممانعة» – أو المقاومة – يتفقان على أمر؛ هو أن هناك ثنائية تفرض نفسها؛ إما التنازل الكامل عن الحقوق الوطنية الفلسطينية، وإما المقاومة كما مارسها هذا المحور في العقدين الماضيين. للفريقين مصلحة مؤكدة في إقامة هذا الثنائية، لكن أتصور أن علينا رفضها، وبيان فسادها، هناك أشكال أخرى للمقاومة المسلحة، وهناك طبعاً أساليب مقاومة سلمية.
نقلاً عن «الأهرام«