وجيه وهبة
ما زلنا نجول بين صفحات محاضر مباحثات «ناصر» و«القذافي» (أغسطس 70) بعد قبول «ناصر» لمبادرة «روجرز».. هدنة الشهور الـثلاثة، ووقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل. ننبش في صفحات الماضي، لأن ذلك الماضي – للأسف – ما زال يعيش معنا، ولكأنما دروسه المستفادة قد مُحيت أو نُسيت، لنكرر ذات الأخطاء ونرفع ذات الشعارات.
«مبادرة روجرز» لم تكن مُنشئة للخلافات العربية مع «مصر عبدالناصر»، بقدر ما كانت كاشفة لها. وهذا ما نتبينه.. مما ورد في مباحثات «ناصر» و«القذافي». ولكم أشفقتُ على «ناصر» من هذا الوضع البائس، الذي يُضطره إلى الاستماع إلى هراء «تلميذه» الأهوج؛ هذا الذي كان كل ما يهمه.. هو الدفع نحو حرب لا يوجد من هو مستعد لها، ومحاولته الصعبة للمصالحة وتهدئة الأمور بين «ناصر»، وبين الفصائل الفلسطينية، وجبهة رفض «مبادرة روجرز»؛ بزعامة «العراق»، بينما يشن إعلام هؤلاء الرافضين حملة إعلامية شرسة ضد «ناصر». (وتزعَّمت العراق أيضاً – فيما بعد – دول رفض «كامب ديفيد»).
وعلى حد قول «ناصر» للقذافي، فإنه قد توقَّف عن حرب اليهود منذ أسبوع، وتفرَّغ للرد على جبهة رفض المبادرة، واتهامها له بالاستسلام. ويحاول «ناصر» إفهام «القذافي» – وكل من يعترض على أي حلول سلمية ممكنة ح ويدور بينهما هذا الحوار الذي نعرض لجزء منه لنبيِّن مدى عبثية الأمور.
«يقول عبدالناصر في تعجُّب: الله! الحل السلمي ده.. إحنا متفقين عليه من 67. (يعني قبول قرار الأمم المتحدة 242، نوفمبر 1967).
القذافي: لكن ليش المشروع الجديد (يقصد مشروع روجرز)… المفروض اللي اتفقنا عليه.. إن إحنا 7 دول متفقة على التحرير؟
عبدالناصر: إمتى التحرير ده بقى، أقبضه من أنهى بنك؟!
القذافي: ما هو مقدر الموقف.. موجودة القوات موجودة.
عبد الناصر: فين هي؟
القذافي: لأ.. القوة العربية الموجودة الآن، تكفي لتبيد إسرائيل.
عبد الناصر: خلاص يلَّا حرروا بكرة!
القذافي: الفريق فوزي بيقول: القوة اللي موجودة في الجبهة الشرقية.. أكثر من قوة إسرائيل.
عبدالناصر: هذا الكلام على الورق يا أخ معمّر.
القذافي: إحنا عايزين نحوله على الطبيعة.
عبدالناصر: ما تحوِّلوه ! أدينا هنتكلم سنة، هنأخر الكلام سنة ونص… نقعد نتكلم مع يارِنْج (مبعوث الأمم المتحدة في المنطقة) سنة ونص؛ وورونا إيه اللي هتعملوه من أجل التحرير! «… » ده أنا والله أعلنها بكرة مصر.. جمهورية مصر، ولا أخليش العراق يتحكم فينا!» ا.ه.
وربما يتساءل قارئ اليوم الشاب – في اندهاش – عمَّا يعنيه «ناصر» من تهديده هذا.. بقوله: «والله أعلنها بكرة جمهورية مصر… إلخ». وربما لا يعلم أن اسم بلاده كان في ذلك الحين (1970) هو «الجمهورية العربية المتحدة». ولذا علينا أن نوجز له الحكاية من أولها.
في فبراير 1958، قامت الوحدة بين «مصر» و«سوريا» تحت اسم «الجمهورية العربية المتحدة». وأصبحت مصر تُسمى – رسمياً وإعلامياً – «الإقليم الجنوبي»، و«سوريا» تُسمى «الإقليم الشمالي»، وكانت تلك الوحدة تُعد نواة لإمبراطورية عربية، مأمولة – أو متوهَّمة – بقيادة «ناصر»، هذا الزعيم، الذي ما توقَّف يوماً في خطاباته أمام الحشود.. عن الدعوة لوحدة الأمة العربية «من المحيط الأطلسي إلى الخليج الفارسي» على حد قوله… نعم.. «الخليج الفارسي» – كما كان يَصِفه وللمفارقة، وليس «الخليج العربي».!! – وسبحان مُقلِّب الخِلجان.
وفي سبتمبر 1961، انفصلت «سوريا» عن «الجمهورية العربية المتحدة»، وعاد لها اسمها..«سوريا». أما نحن، فقد تمسَّكنا بغرابة شديدة.. باسم «الجمهورية العربية المتحدة»، ولمدة 10 سنوات بعد انفصال الوحدة، حتى تولى الرئيس «السادات» الحكم، وصحَّح تلك المهزلة، وأعاد لأقدم «دولة» على وجه الأرض اسمها التاريخي الموغل في القدم «مصر».
في ضوء ما سبق، يُفهم تهديد «ناصر» للمزايدين عليه.. من مناوئيه العرب بقوله: «والله أعلنها بكرة جمهورية مصر… إلخ»، بأنه تهديد – وقد تردَّد في أكثر من موضع – بتنصُّل «مصر» من أي التزام «قومي عربي». والاهتمام بشأن «سيناء» وفقط. بلا «ضفة» بلا «قدس» بلا «غزة» بلا «جولان».
قدر كبير من مأساة الشعب الفلسطيني – ومآسينا – منذ بدايتها في القرن الماضي.. وإلى يومنا هذا، ناجم عن «ذهنية الرفض»، الشعبوية – السياسية والدينية – وعن المتاجرة بالقضية الفلسطينية، أو المزايدة على أصحابها الفعليين أنفسهم. واليوم، نرى بأعيننا بعض دول الخليج العربي.. وقد أفاقت، وتخلَّت عن تلك «الذهنية» الديماجوجية، وشعاراتها العبثية، والتفتت إلى مصالحها التنموية، وأمن وأمان مواطنيها أولاً. أدركت تلك الدول، عبثية عقود طويلة من «الرفض»، ونضال الحناجر؛ منذ عهد الأمينين؛ «أمين الحسيني»، مفتي «القدس»، و«أمين» عام جامعة الدول العربية «عبدالرحمن عزام». («أبو الكلام عزام»، كما كان يَصِفه البعض تهكماً).
«الاحتلال مع سعد، أفضل من الاستقلال مع عدلي». شعار شهير، من تراث شعارات توابع ثورة 1919؛ شعار أحمق فاسد، ولكن يبدو أن صلاحيته ما زالت مستمرة لدى الكثيرين.. إلى يومنا هذا. شعار يعبِّر عن ذهنية إدمان الفشل، وهي ذاتها ذهنية القائل.. بأن «الهزيمة مع ناصر واحتلال سيناء، أفضل من النصر مع السادات وتحرير سيناء». أو ذهنية «احتلال وموت وخراب مع حماس، خير من دولة وحياة مع فتح».
نقلاً عن «المصري اليوم»