Times of Egypt

نحو شرق أوسط جديد.. هدف واحد ووسائل مختلفة (1-2)

M.Adam
نيفين مسعد

نيفين مسعد

يوماً بعد يوم، تتضح معالم الشرق الأوسط الجديد.. في الرؤيتين الأمريكية والإسرائيلية. وأحد المعالم المشتركة بين الرؤيتين؛ يتمثل في إضعاف الدول الوطنية العربية، وشغلها بصراعاتها الداخلية.. ومع جوارها المباشر، لمزيد من تكريس الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة. وتُعتبر بلاد الشام مختبراً مهماً لتحقيق هذا الهدف، وذلك لأنه من الناحية التاريخية كانت إعادة ترسيم خريطة الشرق الأوسط – سواء بالحذف أو بالإضافة – تبدأ من منطقة القلب. كما أن بلاد الشام تموج بتنوعها الديموغرافي الكبير، ما يسمح باختراقها من الخارج.. عبر توظيف ورقة الأقليات.

يضاف إلى ذلك وجود شبكة من التقاطعات والتناقضات المعقدة؛ فيما كان يُعرف بالهلال الخصيب – ما بين سوريا والعراق، وسوريا ولبنان، والأردن والعراق، والأردن وسوريا – هذا دون الحديث عن فلسطين المتماسة مع كل هذه الدول، ولا الحديث عن القضايا المعلقة بين كل من سوريا والعراق وتركيا. 

وقبل الاستطراد في التحليل، تجدر الإشارة إلى أن إسرائيل.. تتعاطى بشكل – متسق وثابت ومتماسك – مع هذه المنطقة من العالم؛ عبر تشجيع تفكيكها إلى مجموعة من الدويلات الطائفية والعرقية؛ بما يخدمها هي نفسها.. كدولة قائمة على أساس الدين. أما الولايات المتحدة، فإنها – وإن كانت لا تستبعد تماماً النهج التفكيكي، ولديها خرائط جاهزة بشأنه – إلا أنها لا تتمسك به بالضرورة؛ ربما بحكم ظروف النشأة الأمريكية، التي قامت على أساس الارتباط بالأرض.. لا بالدين أو بالأساطير الروحية. 

خرج علينا السيد توماس باراك – المبعوث الأمريكي للبنان وسوريا – منذ أيام قليلة.. بعد زيارته للبنان، بتصريح صادم، قال فيه ما يلي: «إذا لم يتحرك لبنان، فسيصبح بلاد الشام من جديد». يُفهم من هذا التصريح.. أنه ما لم يقم لبنان بنزع سلاح حزب الله فوراً، فإنه ربما.. يتم ضم أجزاء منه إلى سوريا! كان هذا تصريحاً مفاجئاً وصادماً.. وغير متوقع؛ فمبدئياً، كان توماس باراك نفسه.. قد أثنى – بشكل مبالغ فيه – خلال نفس الزيارة، على الرد الرسمي اللبناني على الورقة الأمريكية (التي مثل نزع سلاح الحزب جوهرها الأساسي)؛ حيث وصف الرد بأنه مسؤول جداً.

ومع علمنا التام.. بأن الرد اللبناني كان يتضمن مجموعة من التحفظات، على استمرار احتلال إسرائيل لأراضٍ لبنانية، وعلى تواصل الانتهاك الجوي.. بشكل شبه يومي للسيادة اللبنانية، فقد بدا لنا ثناء باراك غريباً، لأنه كان يعني أن الإدارة الأمريكية باتت تدرك استحالة مطالبة حزب الله بتسليم سلاحه.. في ظل الاحتلال الإسرائيلي، والتهديدات الإسرائيلية المتواصلة للبنان. لكن عودة باراك بسرعة.. لتهديد لبنان بالرجوع إلى الوصاية السورية، تكشف عن أن الإدارة الأمريكية ما زالت تتعامل بنفس النظرة الاستعلائية القاصرة.. مع قضايا الشرق الأوسط، وأنها تقاربها من منظور لا يقبل سوى الخضوع والاستسلام التام.

وعلى الرغم من ثبوت فشل هذه النظرة.. في التعامل مع قضيتي غزة وإيران، إلا أن الولايات المتحدة تمارس لنفسها.. ما يمكن أن نصفه بالخداع البصري. على أن المفاجأة في تصريح توماس باراك، لا تنبع فقط من الانتقال إلى التهديد.. بعد الثناء الجمّ، بل إن هذا الجانب.. هو الأقل مفاجأة في تصريحه. أما الجانب شديد الخطورة، فهو أن التهديد بضم بعض أجزاء من لبنان إلى سوريا.. إنما هو بمثابة الوصفة السهلة لتفجير لبنان من الداخل، وإشعال الصراع بين سوريا ولبنان. ويدرك توماس باراك هذه الحقيقة جيداً.. بحكم أصوله اللبنانية. والذي يتابع ردود الفعل اللبنانية الأولية – في مختلف وسائل الإعلام التقليدي والحديث – يتبين كيف أدى هذا التصريح.. إلى اصطفاف القوى السياسية في لبنان في مواجهته.

ويمكن القول إنه – باستثناء قطاع من التيار السني، الذي رحب بهذا الطرح الأمريكي، وبالذات في مدينة طرابلس.. معقل السلفية الجهادية في لبنان – فإن الغضب اللبناني كان عارماً. ولنا أن نتخيل كيف أن حزباً كحزب القوات اللبنانية، صار في معسكر واحد مع حزب الكتائب اللبنانية، بل ومع حزب الله نفسه.. على اختلاف المواقف السياسية بين هذه الأطراف الثلاثة، ما بين القوات اللبنانية التي ناصبت نظام بشار الأسد العداء التام، وبين حزب الكتائب الذي تقارب مع نظام بشار الأسد في البداية، لكنه رفض التورط في الحرب إلى جانبه، وبين حزب الله الذي استمر في الدفاع عن نظام بشار الأسد.. حتى الرمق الأخير. ثم هناك موقف الحزب التقدمي الاشتراكي (لآل جنبلاط)، الذي يتابع معاناة دروز السويداء في سوريا، فما باله لو انتقل نفس نظام الحكم للهيمنة على لبنان. وعدا كل ما سبق، فإن طرح السيد باراك.. يقدم مبرراً إضافياً لاحتفاظ حزب الله بسلاحه، ليواجه به الاحتلال السوري المحتمل.. بعد الاحتلال الإسرائيلي بحكم الأمر الواقع.

بعد الضجة الكبيرة – التي أثارها تصريح باراك – عاد الرجل ليصحح موقفه.. قائلاً إنه لم يكن يقصد تهديد لبنان، لكنه كان يقصد الإشادة بالخطوات الكبيرة التي قطعتها سوريا؛ وهو تصحيح لا يقل بؤساً عن التصريح الأساسي. وذلك أن كون الولايات المتحدة تتحمس للنظام السوري الحالي – الذي ساهمت في تجهيزه وتدريبه وإعادة تقديمه بعملية rebranding – كما يقال.. فهذا شيء، ومحاولة إقناعنا بأن هذا النظام قطع خطوات كبيرة.. شيء آخر. 

ولعل أول سؤال يثيره تصحيح باراك، هو في أي اتجاه مضت خطوات هذا النظام الجديد بالضبط؟ ولدينا – من انفراده بالحكم، وتهميشه كافة المكونات السورية غير السنية، وعجزه عن ضبط انفلات الأوضاع في الساحل والسويداء.. بل وفي محيط قصر الشعب نفسه – ما يقدم لنا صورة غير وردية بالمرة عنه. 

لكن في كل الأحوال، فإن تصريح توماس باراك لم يكن مجرد زلة لسان، بل هو يكشف عن تغير في النهج الأمريكي.. حيال التعامل مع سوريا؛ من الدفاع عن الأكراد، ومطالبة دمشق باحترام التنوع، والتخلص من المقاتلين الأجانب.. إلى التخلي الأمريكي عن الأكراد، ومساعدة النظام السوري الجديد في القفز على مشكلاته الداخلية، والهروب منها إلى الخارج؛ وهو نهج جديد.. يساعد على تحقيق هدفين أساسيين؛ أولاً: إشغال المقاتلين الأجانب بقضية خارجية.. هي قضية لبنان، وإبعادهم عن الداخل السوري.. الذي يرفضهم. وثانياً: تصفية حسابات النظام الجديد مع خصوم الأمس، وبالذات مع حزب الله.

أما تصور الولايات المتحدة بشأن إمكانية أن يتطور الأمر.. على هذا النحو الذي ترجوه، فهذا قد يكون نوعاً جديداً وخطيراً.. من خداع البصر المتعمد. 

وإلى مقال الأسبوع المقبل الذي يتناول التعاطي الإسرائيلي مع بلاد الشام.

نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة