أحمد الجمال..
عشت في طفولتي وصباي المبكر- أي قبل سبعين عاماً – مشهداً كان يتكرر، وإن كان تكراره نادراً، عندما كان يتصادف وينزل لقريتنا – التي كانت محدوفة في عمق وسط الدلتا – أي أفندي يلبس بنطلوناً وقميصاً، وأحياناً فوقهما جاكتة، ونادراً كرافتة، فنتحلق حوله، أو نسير وراءه نراقبه.
وكنا نسمع حواراً بين بعضهم، وبين من يلتقونه من الفلاحين؛ حيث يبدأ الأفندي بسؤال بعد السلام: «إزاي الحال يا حاج؟»، فيرد الفلاح من فوره، وبدون أدنى تفكير: «الحمد لله عال العال، الأشيا معدن وكله كويس والحمد لله.. والبركة فيكم، وربنا يكرمكم ويطول عمركم.. إحنا من غيركم مانسووش حاجة»!
فيرد الأفندي: «طوِّل بالك، كلمني بصراحة وماتخافش». ثم يبادر بلجم لسان العمدة ومشايخ البلد والغفر.. إذا ما حاولوا التدخل. ليزيد اطمئنان الرجل.. الذي يرد مؤكداً وراجياً النجاة: «قلت لحضرتك إنه كله تمام، وربنا يزيدكم من نعيمه».. ويتقدم منحنياً ليحاول تقبيل يده، أو لمس أسفل ساقه، كناية عن رغبته في تقبيل الجزمة.. لو لزم الأمر. ولسان حاله يقول: أعتقني واتركني في حالي، ولا أريد أن أغلط!
وكان أهلنا – في تلك الجموع الكبيرة – لا يطمئنون أبداً للغريب.. لابس الإفرنجي، ويتوقعون الشر دوماً، ونصب الفخاخ للإيقاع بهم.
ثم مرت العقود.. كي نصل الآن – في بداية الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين – ونجد حواراً ساخناً بين بعض كبار قادة الرأي في الصحف، حول العَيَّان، أي المريض، الذي يحمد الله في كل صلاة، وعند كل نعمة أو نقمة، ولكنه تجرأ ولم يلهج لسانه بحمد وشكر الحكومة والوزير والمستشفى، ولم يفعل – كما فعل أجداده – على النحو الذي أسلفته!، وأراد المسؤول الكبير أن يُنهي المشهد- فيما أظن- فقال ما قاله، وهو تذكير زميلنا المواطن بواجب الحمد والشكر على كل الأحوال، وأن القاعدة التي نسيها زميلنا هي: «من لم يشكر الناس، لا يشكر الله»!
وأنا هنا لا أناقش الديالوج.. الذي جرى بين سيادة نائب رئيس الوزراء وزميلنا العَيَّان، ولا أتوقف عند.. هل كانت كلمة عفوية درج قولها في ملايين المواقف المشابهة «احمد ربنا واشكر فضله، وفضل من أنجزوا.. وبعدين اشتكي»!، أم هيسقطة من مسؤول؟
وما أتوقف عنده، هو سؤال أظنه مشروعاً: «لماذا بادر المواطن بالشكوى والأنين، ولم يلتفت للتطوير الذي جرى؟.. ولماذا خلط الوزير بين الإنجاز المادي في وزارته- أي الأجهزة والمعدات والمباني وخلافه- ودور العنصر البشري في تلك المؤسسات الخدمية؟ وقد تركزت شكوى المريض على سلبيات ذلك العنصر»؟!
وفي اعتقادي.. أن هذا هو جوهر الموضوع، أو مربط الفرس كما يقولون!.. إنجازات مادية هائلة، في كثير من جوانب البنية التحتية.. وأيضاً الخدمية. ونقص كبير في مهارات العنصر البشري المسؤول.. عن تشغيل تلك الإنجازات؛ ابتداء من درجة التخصص، وكفاءة التدريب الفني.. مرورا بغياب التأهيل للتعامل مع الفئات الاجتماعية، التي يتعين خدمتها في تلك المجالات – باختلاف تعليم وثقافة ووعي تلك الفئات، ومستواها الاجتماعي والاقتصادي – ثم دور ذلك العنصر البشري في الصيانة والتطوير، وأيضاً رفع وعى متلقي الخدمة.. بأهمية ما يقدم له، وشرح سبب أي تقصير قد يظهر.
إنني لا أريد أن أنعطف إلى ما يتصل بقضية «الجزاء والشكر»، وقضية زلل الألسن.. في مكوننا الحضاري العقيدي، حتى لا أبدو واعظاً، ولكنني فقط أُذكّر السيد الوزير.. بآيات سورة الإنسان: «إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً. عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً. يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً. ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً»، ثم أذكر عن أمر اللسان الإشارة التي جاءت في أحد الأحاديث النبوية.. التي كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- ينصح فيها أحد أصحابه عن أبواب الخير، ورأس الأمر وعموده وذروة سنامه، وأجمل ذلك كله فيما معناه ووصفه بأنه مِلَاك ذلك كله.. إذ أخذ بلسانه وقال لصاحبه: «كُف عليك هذا»، ورد الصحابي: «أوإنا لمؤاخذون بما نتكلم؟»، فردَّ الرسول «ص»: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم (أو على مناخرهم) إلا حصاد ألسنتهم؟».
وعليه.. فإن زلة اللسان، أو الكلمة العابرة.. قد تكون مقبولة من عامة الناس، أما من كبار أهل الحكم والمسؤولية، فإنها ليست كذلك. وإلا فتحنا الباب لكل من يؤدي كلامه إلى كارثة أو خطأ، بأن يتعلل بزلة اللسان وعدم القصد!
ثم إن زميلنا المواطن العَيَّان، قد امتلك التمييز.. بين كمال المُنجز المادي، وخلل العنصر البشري؛ فعبّر عن كمية من الاحتقان العام، يتم تنفيس بعضها من أي مفصل ضعيف، يسمح لها بالنفاذ. وهنا، أخشى العواقب، ويتعين أن أؤكد ما أكده أجدادي: «كله تمام.. الحمد لله.. الأشيا معدن وكتر ألف خيركم»!
نقلاً عن «المصري اليوم»