Times of Egypt

الاستنفار الأوروبي.. ومشروع البوابة العالمية

M.Adam
سمير مرقص 

سمير مرقص..
«الاستنفار» (الأوروبي).. هو عنوان المرحلة للقارة الأوروبية؛ في مواجهة التنصل الأمريكي «الترامبي»..عن التزامه بدوره في التحالف الغربي الأطلسي، وذلك باتخاذه مسارات مغايرة للموقف الأوروبي.. حيال كثير من القضايا، والتراجع عن تأدية ما تتطلبه الشراكة التاريخية. ويتمثل هذا الاستنفار – بالأساس – في بناء موقف أوروبي مستقل؛ فيما يتعلق بالقضايا الاستراتيجية والتنموية والعسكرية.
في هذا الإطار، عرضنا في مقال الأسبوع الماضي لتجلٍّ أول.. من تجليات هذا الاستنفار، الذي أطلقنا عليه: «عسكرة أوروبا»؛ وهي الخطة التي أعلنت عنها – قبل أسبوعين -«أورسولا جيرترود فون دير لاين»..رئيسة المفوضية الأوروبية.
أما التجلي الثاني.. الذي يجري تجديد الحديث عنه.. لتفعيله وتطويره فوراً؛ فهو ما يُعرف بـ «مشروع»أو مبادرة «البوابة العالمية» Global Gateway؛وهو المشروع التنموي الذي أعلنت عنه لأول مرة في نهاية 2021 ، رئيسة المفوضية الأوروبية؛ حيث ينطلق المشروع من توفير ما يقرب من نصف تريليون دولار؛كـ «تمويلات استثماريةعامة وخاصة – أو تقدم كمنح وقروض – لتطوير البنية التحتية العالمية، ودعم كل من التحول الرقمي والمناخي والأخضر للدول.. في القارات المختلفة، وتعزيز المجالات الصحية والتعليمية والبحثية العلمية لدول أوروبا والعالم»، ومواجهة الجوع والأوبئة.
وإضافة إلى ما سبق، العناية بخلق قاعدة عريضة من الكوادر البحثية والتخصصية.. المواكبة للتقدم العلمي والمعرفي والتقني والرقمي والحيوي في الدول الشريكة، كذلك العمل على تقوية القدرات المؤسسية، وتحسين بيئات العمل المختلفة.
هكذا إذن، يخلص الاستنفار الأوروبي.. إلى أن قوة أوروبا تكمن في أمرين. هما أولاً:إعادة بناء القوة المادية العسكرية التكنولوجية الأوروبية. وثانياً:تطوير العلاقات الاقتصادية والتنموية بين القارة الأوروبية، ودول المنظومة الدولية في شتى قارات العالم. وبلورت المبادرة هدفها بوضوح في وثيقة رسمية.. شارحة ما مفاده: «إن المبادرة تسعى إلى بيان كيف توفر القيم الديمقراطية.. اليقين والإنصاف للمستثمرين، والاستدامة للشركاء، وفائدة المواطنين في جميع دول العالم». وكما حرص الأوروبيون -وقت الإعلان عن المبادرة في 2021 – على أنها لا تبغي من ورائها إلى إنشاء «علاقات تبعية»،بل إلى «تأسيس روابط».. بين أوروبا ودول العالم بصفتهم شركاء.
ويقدر المعنيون بالشأن الأوروبي أن الاستنفار الراهن في بعديه العسكري والتنموي من شأنه أن يؤمِّن الفاعلية الجيو-سياسية للاتحاد الأوروبي.. كقوة عالمية وقطب دولي.. ذي تأثير في المنظومة الدولية من ناحية، والنظام الاقتصادي العالمي. وفي نفس الوقت، مواجهة المبادرات/المشروعات الاقتصادية العالمية الأخرى؛ مثل: «مبادرة الحزام والطريق» الصينية، والتمدد الروسي الأوراسي العابر للقارات، كذلك مواجهة ما نجم عن «النزوع الترامبي المنفرد»..فيما يتعلق بالتجارة العالمية، والحرب المستعرة من جراء القرارات الترامبية.. المتعلقة بالتعريفات الجمركية، التي أحدثت أضراراً اقتصادية بالغة.
وبالأخير، مواجهة الهيكلية الجديدة – التي تتكون من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية – التي تعمل على صياغة الشأن الأوروبي عموماً، وتسوية النزاع الروسي الأوكراني الراهن خصوصاً، بعيداً عن المنظومة الأوروبية ورغبة غالبية أعضائها.
ويعتبر الباحثون الاستنفار الأوروبي الراهن.. قطيعة تاريخية مع الموقف الأوروبي (شمل أولاً دول غرب أوروبا بالأساس، إضافة إلى أوروبا الجنوبية والشمالية في مرحلة الحرب الباردة، ثم انضمت غالبية دول شرق أوروبا تاليا) الذي التزمته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قبل سبعين سنة؛ وأقصد موقف الشريك الرئيسي للولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم التحرك المشترك – عبر الحلف الغربي الأطلسي – من خلال توزيع دقيق للأدوار في شتى المناطق الحيوية في العالم. كذلك تقاسم منصف بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا – بدرجة أو أخرى – حيث تتولى الأولى توفير القوة الصلبة العسكرية التكنولوجية في المقام الأول، والثانية القوة الناعمة بعناصرها المختلفة. ولا شك أن الحضور الترامبي الأول – الفترة الرئاسية الأولى – التي بدأ فيها الحديث عن الانسحاب الأمريكي من الاتفاقات الدولية (النافتا، ومعاهدة باريس الخاصة بالتغيرات المناخية، واليونيسكو، واتفاقية المحيط الهادئ، والاتفاق النووي)، وضرورة التوقف عن الإنفاق المالي لصالح الآخرين، كذلك عن المساهمات المالية التي على الولايات المتحدة الأمريكية أن تدفعها في المحافل الدولية – قد دفعت الأوروبيين إلى التفكير جدياً في أن «تستعيد أوروبا نفسها المستقلة» – حسب تعبير أحد الباحثين – وأن تبلور مشروعاً تُجدد فيه دور أوروبا.. كقطب مستقل استراتيجيا فاعل ومؤثر أوروبياً وعالمياً.. متميزاً عن القطب الأمريكي.
وبعد، لا شك أن الاستنفار الأوروبي الراهن، يمثل انعطافة حادة وتاريخية، سوف يكون لها تأثيرها على المشهد الدولي: اقتصادياً، واستراتيجياً، وأمنياً، وسياسياً، وتنموياً. وتشير اتجاهات النقاش الأوروبية، والنصوص الصادرة عن الآليات الأوروبية القارية.. إلى أن هناك وعياً جمعياً بأن: «أوروبا تقف اليوم عند مفترق طرق حاسم، حيث تواجه تحدّياً وجودياً»؛ ما يستدعي ضرورة استعادة أوروبا.. كقوة عظمى بكامل طاقاتها، حتى تتمكن من حماية الحضور الأوروبي الجيوسياسي الفاعل والقادر.. في شتى القارات (خاصة أفريقيا)..على قاعدة التكافؤ، من خلال مشروع/مبادرة البوابة العالمية.
… هل سيثمر الاستنفار الأوروبي.. الذي يعني نجاحه تحولاً جذرياً للسياق الأوروبي الراهن؟
نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة