عبدالله عبدالسلام
أتذكر أنني قرأت للأستاذ العقاد.. تفسيره لتميز – دول دون أخرى – في الإبداع الثقافي والفني. ارتكزت
رؤية كاتبنا العظيم الراحل.. على أن الدول التي تحقق تقدماً اقتصادياً، وتتمكن من توفير حياة كريمة
لمواطنيها، تجعلهم يفكرون أبعد من «بطونهم». لقد أشبعوا غريزة حب البقاء، وأصبحوا يتطلعون إلى
أمور أخرى أسمى وأرقى؛ هي الثقافة والفن والفكر.
شيء من هذا القبيل، حدث في كوريا الجنوبية.. ودول جنوب شرق آسيا عموماً. لكن الظاهرة الكورية
لافتة للغاية. الفن والموسيقى والأدب الكوري، يقدم نفسه للعالم بأجمل وأبهى صورة. النهضة الاقتصادية
- التي حققتها البلاد – لم تتوقف عند تحسين مستوى المعيشة بصورة مذهلة، وامتلاك أحدث الأجهزة.
كوريا الجنوبية أضحت بالفعل قوى ناعمة حقيقية.
قبل أيام، حصدت المسرحية الكورية «ربما هي نهاية سعيدة» ست جوائز.. في مسابقة «توني» للمسرح
الأمريكي؛ وهي أفضل مسرحية، وإخراج، وكتابة، ولحن أصلي، وأداء لممثل.. في دور رئيسي، وأفضل
تصميم مسرحي.
وفي عام 2022، فاز مسلسل «لعبة الحبار».. الكوري الجنوبي، بجوائز مسابقة «إيمي» الأمريكية
الشهيرة.
قبل ذلك، اقتنص الفيلم الكوري «الطفيلي».. جائزة الأوسكار – وهي المرة الأولى التي يحصل فيها فيلم
غير ناطق بالإنجليزية على الجائزة – كما فاز الفيلم بجائزة أفضل مخرج، وأحسن سيناريو.
ولم يتوقف الأمر عند الفن، فقد حصلت الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانج.. على جائزة نوبل في الآداب
لعام 2024.
ومع كل ذلك، فإن المسألة ليست جوائز فقط.
الموسيقى الكورية تجتاح شرق آسيا والغرب. اليابانيون والصينيون.. منبهرون بالدراما الكورية.
… في عام 2004، زرت كوريا الجنوبية لمدة شهر، تعرفت خلالها على جوانب المعجزة الكورية، ليس
الاقتصادية فقط، بل التعليمية والتكنولوجية والفنية والموسيقية.
الدولة توفر المناخ والدعم المادي والمعنوي، لكن القطاع الخاص يتولى المسؤولية.
تشعر – عندما تزور الاستديوهات – أنها لا تقل جمالاً وضخامةً 0 إن لم تزد – على استديوهات هوليوود.
منذ سنوات، تعارف العالم على ظاهرة الصعود الكوري في الفن والثقافة، وسماها «الموجة الكورية»،
التي انطلقت بداية القرن الحالي.
الحضور الكوري طاغ في مختلف المجالات الثقافية والفنية – بما في ذلك الموسيقى والدراما والأفلام
والأزياء الجمال.. وحتى المطبخ – بحيث كون العالم صورةً جديدةً عن كوريا الجنوبية. عملت الحكومة
بقوة على تشكيل تلك الصورة.
بدلاً من الاعتماد فقط على الصناعات الثقيلة والتكنولوجيا، جرى التركيز على دعم الإنتاج الثقافي؛ مثل
الموسيقى والتلفزيون والدراما. وبفضل ذلك، بدأت الدراما الكورية تصل إلى شاشات التلفزيونات.. في
الدول الآسيوية المجاورة. ثم اتسعت الدائرة عالمياً، وكانت الموسيقى القوة الدافعة الأساسية، تلتها الأفلام
ومستحضرات التجميل والمطبخ الكوري. لم يكن الأمر مجرد رواج مادي فقط حيث حققت الأعمال الفنية
مئات الملايين من الدولارات، وزادت كثيراً من حركة السياحة. لكنها أيضاً ساهمت في تعريف العالم
بالثقافة والتاريخ الكوريين. ركزت الأعمال الفنية على القيم الثقافية الكورية.. مثل احترام الأسرة والتقاليد.
نحتاج إلى دراسة التجربة الكورية.. ليس اقتصادياً فقط، بل ثقافياً وحضارياً وفنياً. النهضة كل لا يتجزأ.
هناك رؤية تدعمها الدولة، وينفذها القطاع الخاص، ينطلق من خلالها العنان لقدرات وإبداعات الأفراد.
نقلاً عن «المصري اليوم»