Times of Egypt

محمد السيد إسماعيل.. نظرة على مسيرة مخلص للأدب 

M.Adam
عمار علي حسن

عمار علي حسن 

سمعت عن د. محمد السيد إسماعيل.. كثيراً قبل أن أقابله. كنت قد قرأت له بعض شعره ومقالاته النقدية، فراق لي ما يُبدع ويكتب، فلمَّا أخبرني صديقنا المشترك الأستاذ محمد رشدي.. أنه يزامله في جريدة «العربي» التي كانت تصدر عن «الحزب الناصري».. طلبت أن أراه، وكنت أتردد عليها سريعاً.. لأمدها ببعض مقالات في الأدب والنقد الثقافي. 

رأيته وقتها منهكماً في مراجعة صفحات الجريدة، يُعمل فيها قلمه بسرعة وتفانٍ، ثم يرفع وجهه مرسلاً ابتسامة.. ينفرج لها فمه واسعاً، ثم ينحسر لترمق تحت جبهته عينين تتألقان بالذكاء والحذر. تجاذبنا أطراف الحديث، فعرفت منه أن أطروحته للدكتوراه في كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة عن «الرواية والسلطة»، وأيامها كنت أستعد لإصدار طبعة جديدة من أطروحتي المماثلة التي صدرت في كتاب بعنوان «النص والسلطة والمجتمع.. القيم السياسية في الرواية العربية»، فطلبت منه أن يمدني بنسخة من أطروحته، فجاء إليَّ بها بعد أيام، فلما اطّلعت عليها استحسنتها، ورأيت أنه قد أفرد باباً عن علاقة الشكل الروائي بالرؤية السياسية، وهو ما كنت أراه ينقص كتابي، لكن عزائي أن دراستي ما كان لها، وهي في العلوم السياسية، أن تستغرق في هذا المسار، لينصب الاهتمام فيها على مضمون الروايات التي التقطت منها عيِّنة غطت العالم العربي تقريباً، لأُنقّف عن قيم الحرية والمساواة والعدالة والانتماء فيها. 

استفدت من أطروحة محمد، وأشرت إليها في الطبعة الجديدة بالجزء الخاص بالدراسات السابقة، وأحلت إليها في بعض مواضع رأيت أنها بحاجة إلى إضافة أو ترميم. أمدَّني محمد بعدها ببعض دواوينه الشعرية ومسرحياته وكتبه النقدية، فوجدت نفسي أمام أديب وباحث يمتلك أدواته باقتدار، ويقف على رأس مسار يتطلب منه أن يواصل الإبداع في إتقان، والبحث في دأب. 

كان محمد موظفاً في وزارة التربية والتعليم، ويعمل في التدقيق اللغوي بعد الظهر في صحيفة العربي، لا ليضيف إلى دخله بعض ما يعينه على النهوض بأعباء أسرته، لكن بالأساس ليظل قريباً من الصحافة، التي يؤمن بأنها باب مهم يجب أن يطل منه الكاتب والشاعر على الناس، خاصة قبل وسائل التواصل الاجتماعي. ورغم أن هذا كان يتطلب منه جهداً فوق الجهد، لأنه يأتي إلى القاهرة كل يوم من قريته «طحانوب» بمحافظة القليوبية، فإنه بقي يعمل بهمة فلاح أجير. 

تزاملنا ذات مرة، برفقة الشاعر والكاتب الصحفي د. السيد رشاد بري، في رحلة قصيرة إلى المنيا. كنا مدعوين لحلقة في برنامج ثقافي بالقناة السابعة، وفي القطار دار حديث حول الثقافة وأحوالها، والكتب وألوانها، فأدركت أن د. محمد مطلع على ما تقذفه إلينا المطابع في الشعر والقصة والرواية والمسرحية والنقد، لهذا لم أندهش لكل هذا الكم من المقالات النقدية التي ينشرها عن أعمال الآخرين، كاتباً إياها بمحبة غامرة، ونزاهة على قدر الاستطاعة. 

تراه يسعى إلى الندوات في شوارع القاهرة، تهتز في يده حقيبة جلد عتيقة تستقر كتب في قعرها، وتجده جالساً في أحد مقاعد المترو ذاهباً إلى محطة عبود حيث يستقل ميكروباص إلى قريته، وهو في عزلة وانفصال عمن حوله غارقاً في كتاب يقرأه، اقترب لديه أوان الكتابة عنه، أو مناقشته في ندوة قادمة. وعرف كثير من الأدباء همته، فأهدوا إليه كتبهم، طالبين منه أن يدلي برأيه فيها، فلم يردّ أحداً، حتى صار مثقلاً بسبب الإخلاص والمحبة للكُتَّاب والكتابة، وأحياناً بحد الحياء. 

ولأني أعرف الأعباء الملقاة على عاتقه، كنت أتمهل في إهدائه أعمالي الأدبية والفكرية، لكنه لم يكف مرة عن طلب كل جديد، حتى أحسبه أكثر من قرأوا كتبي وكتب عن كل ما قرأ لي في القصة والرواية والشعر، حتى المسرحية الوحيدة التي كتبتها لم تفلت منه، وأنا في هذا أدين له بفضل كبير. 

يكافح الدكتور محمد السيد إسماعيل على قدر طاقته، من أن أجل يوسع زنزانته، في وسط يفتح ذراعيه طويلاً وواسعاً لمن يطلقون سهام الضجيج فيشقون لأنفسهم طرقاً بحد الحياء وحد الغباء وقانون الغاب، بينما ينسى أولئك الذين يعملون في صمت، ويراهنون على أن «ما ينفع الناس يمكث في الأرض»، لكن في النهاية «لا يصح إلا الصحيح»، وهذا ما يردده محمد دوماً، وهو يحتضن تجربة شعرية تتقدم على مهل، وتجربة نقدية يحتفي فيها حتى بمن ينافسونه على درب الأدب. 

يمضي شاعرنا وناقدنا الآن في أول العقد السابع من عمره، ومعه سبعة دواوين شعرية هي: «كائنات في انتظار البعث» و«الكلام الذي يقترب» و«استشراف إقامة ماضية» و«تدريبات يومية» و«قيامة الماء» و«يد بيضاء في آخر الوقت» و«أكثر من متاهة لكائن وحيد»، وأربع مسرحيات هي: «السفينة» و«رقصة الحياة» و«زيارة ابن حزم الأخيرة» و«وجوه التوحيدي» إلى جانب ثلاثة عشر كتاباً نقدياً هي: «الرواية والسلطة» و«الحداثة الشعرية في مصر» و«فضاء المكان في القصة العربية القصيرة» و«الخروج من الظل.. قراءة في القصة النسائية في مصر» و«غواية السرد»، و«شعرية شوقي» و«شهادة الشعر» و«رؤية التشكيل.. قراءات تطبيقية في القصيدة الحديثة» و«العابر والمقيم» و«انفتاح النص الشعري» و«الخروج من الظل» و«أساليب السرد في الرواية الأفريقية» و«دلالات المكان السردي». وهناك ثلاثة كتب فكرية هي: «التراث والحداثة» و«نقد الفكر السلفي» و«تنوير المستقبل» وكل هذا حصيلة جهد متواصل بدأه عام 1982، الذي شهد نشر أولى قصائده. 

يمضي محمد السيد إسماعيل هادئاً متأملاً وفي يده بعض الجوائز التي تقدر جهده النقدي والإبداعي، ومنها جوائر في النقد من المجلس الأعلى للثقافة، وهيئة قصور الثقافة، ودائرة الإبداع بالشارقة، ومجمع اللغة العربية، وجائزة في الشعر من صندوق التنمية الثقافية، وأخرى في المسرح من اتحاد الكتاب، وجائزة إحسان عبد القدوس، لكن هذه الجوائز التي حازها عن جدارة لا تفيه كل ما يستحق. 

تتوالى المقالات والدراسات والكتب التي ينتجها الرجل.. دون كلل ولا ملل، حتى يُشعرك أنه منذور للقراءة والكتابة، لكنها لا تتكرر وحدها، إنما مثلها، وربما ما هو أجلى منها، هي تلك الدهشة الطفولية التي لا تغادر عيني ومحيا ريفي جاء يسعى في زحام مدينة متوحشة، ويأبى إلا أن يترك بصمته في الثقافة المصرية المعاصرة، كواحد من المخلصين لها، والعاملين لأجلها، والصبورين على جهدها المفرط، وعطائها القليل. 

نقلاً عن «المصري اليوم« 

شارك هذه المقالة